GuidePedia

0

{مع قهوة يوم الجمعة}
بقلم:
رجاء حسين
مقال {6}
======
ويتجدد اللقاء الأسبوعي معكم أصدقائي ------ صديقاتي ودعوة كريمة مع: 
[قهوة يوم الجمعة]
===========
عزيزي القارئ -- لا تقرأ هذا المقال!
لماذا يعشق البعض (الكذب)؟
===========
لطالما شغلني هذا السؤال كثيرًا، وظل حائرا معي لفترات طويلة؛ لاسيما مع تزايد مشكلة الإدمان، أقصد إدمان الكذب، وتزايد حالات الكذب غير المبرر
 لا أقصد بالطبع أن هناك مبررات مقبولة للكذب، فهو يظل في النهاية صفة ذميمة وغير مقبولة في كل الأحوال، ولكن لماذا أشغل بالي بمثل هذا الأمر؟ في الحقيقة لم يكن هذا الموضوع ليشغلني لهذه الدرجة إلا لكثرة ما نراه ونسمعه من مواقف قد تبدو غريبة أحيانا، ومضحكة أحيانا أخرى، وتحدث بعضها أحيانا من أناس لا نعرفهم، ولكن لأنها تحدث أمامنا، فإننا نتجاوز مرحلة الحملقة المندهشة، ورفع الحاجبين وشد عضلات الوجه، وكلها أعراض انعكاسية لبعض تلك المواقف؛ لنمنح أنفسنا ضمنيا حق التعليق عليها، والبحث عن أسبابها، ولكن بيننا وبين أنفسنا طبعًا، لماذا؟
لأنه لو حدثت تلك المواقف من أناس نعرفهم فنحن بحسن نية أو سوء نية حتى، نظهر استغرابنا أمامهم ويدفعنا الفضول والتطفل إل السؤال عن دوافعهم، وإن كنت أنا واحتراما للحرية الشخصية لا أرى هذا من اللياقة في شيء، حيث يسبب نوعا من الإحراج للشخص الآخر، ولكني لا أرى ما يمنع أبدا أن أسأل نفسي بدلا من سؤال الآخر، لماذا يفعل ذلك؟ ولماذا يكذب بدون داعٍ؟
وإذا كان المثل الدارج يقول: {قالوا للكداب احلف قال جانا الفرج}؛ فأنا لا أرى سببا وجيها لأن يتطوع البعض بالكذب دون أن يُطلب منه إثبات أمر ما، والأمثلة على ذلك كثيرة بين من حولنا، ولا شك أنها تقابل الكثيرين منا بشكل يومي، وسنحاول عرض بعض تلك اللقطات، ثم ننتقل إلى الاستوديو التحليلي؛ لنرى معا الأسباب والنتائج لكل هذا:
-------------------------------
اللقطة الأولى:
في إحدى المواصلات العامة مثل (الميكروباص) مثلا، حيث يكون السائق لايزال متوقفا ولم ينطلق في طريقه بعد، ويرن تليفون أحد الركاب، ويدور الحديث التالي والذي لا يسمع منه الركاب سوى ما يقوله الطرف الجالس بجوارهم:
- أيوه   أيوه
-  صوت الطرف الآخرغير مسموع
- خلاص خمس دقايق وأكون عندك ---
- ---------
- أنا فين دلوقت؟ خلاص على كوبري ستانلي
( مع ملاحظة أن السيارة لازالت على أرض سيدي بشر)
--------------
- خلاص، خلاص اقفل د لوقت علشان الطريق زحمة!
 لا تعليق الآن!
=========================
اللقطة الثانية:
شاب صغير يبدو من مظهره أنه طالب ثانوي، يستعد للزوغان من درس ما
أمسك بالموبايل ليرد على مكالمة من أحدهم:
- أيوه   أيوه، ازيك ياعبيط عامل إيه؟
-----------
- أنت كل شوية ترن لي؟ دوشتني يا أخي
----------
- خلاص، قلت لك خلاص جاي، كلها دقيقتين وأكون عندك
---------
- آه آه    إحنا في سان استيفانو {ملاحظة: كنا مازلنا بمنطقة العصافرة}
------------------
- خلاص  ادخل أنت الدرس وأنا وراك على طول ----
لغاية هنا ولا مشكلة! مجرد طالب فاشل ويرغب في التهرب من الدرس لسبب أو لآخر، يجوز مرهق، يجوز منشغل بأمر آخر أهم من الدرس!
ولكنه فجأة أمسك بالموبايل وأجرى مكالمة لصديق آخر قائلا له:
- آلو أيوه، دقيقة حكون عندك، احجز لي مكان جنبك ضروري
--------------
- لا  لا   اوعى الحجز يروح، ده أنا أدبحك! بتقول السايبر زحمة قوي، طيب كويس إنك رحت وحجزت لي
!!!!!!!!
اللقطة الثالثة:
طفل صغير، لا يتجاوز التاسعة من عمره، يقف ليحدث شخصا ما بالموبايل، يتضح أنه (الأم) ويقول:
- آه طبعا أنا دلوقت في الدرس! يللا، اقفلي بسرعة؛ بعدين المستر يزعل!
=================
اللقطة الرابعة:
وللحقيقة هي ليست لقطة؛ بل مشهدا من فيلم واقعي وجد كل الركاب أنفسهم، ولمدة تزيد عن الساعة والنصف - نظرا لازدحام الطريق -  مجبرين على سماعه، من المنشية إلى سيدي بشر، والمشكلة هنا أن المشاهد مباشرة والمكالمات مسموعة بدون مونتاج؛ فأنت مجبر على سماع كل كلمة شئت أم أبيت، ماذا حدث بالضبط؟
واحدة من الركاب، في حوالي الخمسين من عمرها، يبدو عليها الاهتمام الواضح بمظهرها العام، وبجوارها جلس ابنها الشاب المهذب، أمسكت الراكبة بالموبايل، وطلبت إحداهن، بدأ الحوار:
- آلو، أيوه، نعم، آه، أنا كنت من شوية هناك، (طبعا لم يعلم أحد أين هذا ال هناك)
- -------------------
- لا لا أنا عندي شوية مشاوير في ال ----- (وذكرت اسم محافظة أخرى بعيدة)
-------------
- آه انا دلوقت في ال  --------    ( المحافظة البعيدة)
--------------------
- قلت لك كام مشوار كده ومش حتأخر
واستمر الحوار بهذا الشكل لحوالي 7 دقائق متواصلة كانت مصرة فيها على تأكيد أنها في تلك المحافظة والتي تبعد عنا في ذلك الوقت بحوالي 5 ساعات، وبعدها أنهت المحادثة، وقبل أن يتنفس الجميع الصعداء حامدين الله على انتهاء هذا الصداع الإجباري، إلا وطلبت رقما آخر؛ لتبدأ محادثة جديدة وسط مشاعر امتعاض من الجميع، ومظاهر إحراج واضحة على وجه ابنها الشاب الذي حاول معها لقطع حديثها دون جدوى، وبدأت الحوار الثاني:
- آه أيوه آلو نعم، آه ما أنا لسة مكلماها دلوقت، آه معلش، احنا لسة في ال:
 وذكرت
 (المحافظة إياها)
-------------------
- آه بنخلص شوية حاجات كده، لا مش حنتأخر!
-----------------
- آه جينا هنا من ساعتين كده!
وأنهت المكالمة التي لم تقل مدتها عن سابقتها، لتقوم بالعديد من المكالمات على شاكلة المكالمة الأولى مع زيادة في التفاصيل، وطبعا غني عن الذكر أن نقول أنه ومن خلال تلك المكالمات التي كانت تُجرى بسرعة ستين كلمة في الدقيقة، كنا جميعا قد عرفنا الكثير والكثير عن العائلة وعدد أفرادها، وتاريخ الأسرة المرضي والأخلاقي لبعض أفرادها، ناهيك عن أسلوب تعاملهم فيما بينهم، ومن التي تتهرب من خدمة أمها المريضة، والكثير من التفاصيل العائلية التي لا يتسع المجال لذكرها!
======================
قد تمر هذه المواقف أمامنا ولا نتوقف عندها كثيرا، ولكن المثير فيها حقا هو ذلك الكم من المتعة والسعادة التي تتفجر من عيون من يقوم بكل هذا الكذب!
لماذا؟ سؤال تردد كثيرا، ولم أجد له إجابة شافية حتى الآن:
= فهذا الشاب في اللقطة الأولى، والذي يصر على أنه عند كوبري ستانلي وهو مازال في سيدي بشر ومازال أمامه وقت طويل نسبيا نظرا لازدحام الطريق، بينما صديقه ينتظره والله وحده أعلم بحالته وبظروفه، كان يستطيع بكل بساطة أن يخبره بأن أمامه نصف ساعة تقريبا ليصل عنده، على الأقل يتيح لمن ينتظره أن يفعل أي شيء للاستفادة من وقته، بدلا من تركه تحت آشعة الشمس على قارعة الطريق!
===========================
= في اللقطة الثانية: ذلك الطالب الذي كذب للتهرب من الدرس ليقضي وقته في السا يبر مع فاشل آخر، كان يستطيع أن يخبر زميله الأول ببساطة أنه لن يحضر الدرس لأسباب خاصة؛ وخصوصا أن صديقه سيعرف عاجلا أو آجلا أنه لم يحضر، فلماذا الكذب من البداية؟!
=======================
= أما في اللقطة الثالثة وذلك الطفل الممثل الذي يخبر أمه أنه في الدرس! وأنه خائف من غضب المدرس إذا أطال الحديث معها! وكأنه يحترم أحدا أساسا!
متى تعلم الكذب والتمثيل بهذا الشكل، وإذا كان يفعل ذلك الأمر بكل تلك البراعة وهو مازال صغيرا؛ فأي مستقبل له يمكننا أن نتنبأ به؟!
=====================
= أما الفيلم الأخير، أقصد اللقطة الأخيرة، فتحليلها يطول فيه الحديث! لأن هذه السيدة أثارت حفيظة كل الركاب بسبب مسلسل الكذب العلني المفضوح الذي تصر بكل أريحية على القيام ببطولته أمام كل من قامت بمحادثتهم وما أكثرهم! ومما زاد من درجة الاستياء منها أنها هي التي كانت تبدأ الحديث، لتخبر الجميع أنها في مكان آخر بعيد تماما عن المكان المتواجدة فيه!
ولسان حال الجميع يقول لها: لما حضرتك لا تريدين لأحد أن يعلم أنك هنا، فلماذا تتصلين على فلانة وعلانة و و ---  لإبلاغهم أنك في مكان آخر تماما، ولا أخفيكم سرا أنني على المستوى الشخصي أصابني الشك بشكل كبير وأخذت أسأل نفسي: هل أنا الآن في مكان آخر كما تذكر السيدة؟ وأخذت أنظر إلى الطريق وأفرك عيني، لأتأكد أننا بالفعل على كورنيش البحر، وأن السيارة تسير في شوارع الإسكندرية بالفعل! فقد خشيت أن أكون قد انتقلت لسبب ما بآلة الزمن إلى منطقة أخرى بعيدة بدون أن أدري!!
- أيقظني من أوهامي أحد الركاب وهو يطلب من السائق في حنق واضح أن يتوقف لأنه سينزل هنا، رد عليه السائق وهو يهدئ سرعة السيارة:
ألم تقل إنك ستنزل آخر الخط؟
- رد عليه وهو يفتح باب السيارة التي توقفت في تلك اللحظة:
- ياعم نزلني؛ انا كان باقي لي برجين في راسي، راح منهم برج ونص، خليني ألحق النص اللي فاضل لي
وبالطبع نزل وهو يلقي نظرة نارية على السيدة التي لم تعبأ به أساسا، لتستأنف هوايتها المزعجة
والغريب أن ابنها كان يشعر بالحرج الشديد، ويحاول مقاطعتها وإقناعها بأن تؤجل محادثاتها بعد أن تصل وتنزل من السيارة، قائلا لها: خلاص، خلاص قلبك أبيض، وكل واحد منه لله
 كانت تنهره وكأنه طفل صغير، وتبدأ في إجراء المزيد من المكالمات لتواصل الكذب أمام الجميع
- والحمد لله انها نزلت في مكان ما قبل نهاية الخط، وما أن نزلت حتى انفجر البعض ضاحكا، والبعض الآخر أظهر استياءه الشديد، أما السائق فقد طلب أي مسكن للصداع من الركاب قائلا: راسي، راسي حتنفجر
=============================
وإذا كان البعض يجد نفسه أحيانا مضطرا إلى الكذب – مع كل التحفظ على هذا الاضطرار- فما السر في هذا الإحساس بالسعادة، وهذا الشعور بالمتعة على وجوه بعض من يكذبون؛ خاصة أنه لا يوجد أي داعٍ أحيانا لديهم لهذا الكذب؟
وإذا كان هذا الأمر غير مقبول، وغير مستساغ، حتى وإن كان لا يؤذينا بشكل مباشر، فما بالنا بوسائل الإعلام المختلفة؟ والتي يقدم بعضها دروسا مجانية يومية في الكذب الفاضح المكشوف، ويقوم بتقديم تلك الدروس ببراعة وإتقان بعض الذين يحسبون أنفسهم على الإعلام وهو منهم براء، والغريب أننا نعتقد أن الواحد منهم سيتوارى خجلا بعد أن يفتضح كذبه أمام الجميع! ولكن الغريب في الأمر والمثير للاستفزاز أن الواحد منهم يخرج علينا في اليوم التالي بطلَّته غير البهية وعيونه أوسع من طبق الفنجان الذي يضعه أمامه، والابتسامة مرسومة من الأذن اليمنى إلى الأذن اليسرى! والغريب أن هذا المرض العضال يستشري أيضا بين بعض المسئولين مسببا الأعراض نفسها، لنعيد السؤال الحائر في أول المقال:
لماذا يعشق البعض الكذب؟!
================================
أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه دمتم في رعاية الله وحفظه
            أرق تحياتي     رجاء حسين 

============================================

إرسال تعليق

 
Top