كنتَ تظن أن قوس قزح ستعكسه المرايا على وجه مدينتك الجميلة ، مدينتك
لوحة شاحبة لرسام أهوَج لطّخ ألوان سعادتها بضجيج الوجع المزمن ،وحدكَ في
الغابرين ..صوتك لمّا يزل حزينا يدوّنُ الذكرى فوق سطور الفزع في
زنازين مقبورة في عمق المدى ، صفحات تأريخ ممسوخة التهمت أطرافها عناكب
الفناء ،للآن مازلت توهم نفسك أن في يوم ما سينصب لك تمثالا أمام نصب
التحرير يطاول العلياء ،ها أنتَ تخرج من السجن بقدرة قادر ،تفتحّت لك
الأبواب مشرعةً بعد أن فقدَ الحاكم عرشه وفرّ هاربا هو وزبانيته نحو
أغوار ثعالب حمقاء فقدت القدرة بوجه الريح . . تقفُ في باب السجن
تنظر يميناً وشمالا.. يقف معكَ الحزن طويلا، ثقيلا ، غريبا ، يشكو غربته
،لم تعتد عيناك الضوء المنسرب من فوهة السحب الرابضة فوق عين الشمس ،لا
تخف ..النور مفقود حتى خارج أسوار سجنك ،فالعتمة تملأ الطرقات ،و مدينتك
التي كانت جميلة، تنهشها كلاب الطرقات ،تدور فوقها طائرات مشرعة للقتل
والتدمير . لاتعلم شيئا عن أمك ، أختك ، زوجتك ،أبوك قضى نحبه في حرب الخليج الأولى ،اختصر العناء ورحلَ مبكرا. هاهي النوارس تهجر دجلة وتمضي بعيدا ،لاشيء فوق الجسر سوى دبابة (ابرامز) تقف كوحشِِ أسطوري فوق قمة الجسر
،هل سيغلبك الموج وتنسى أحلامك هل ستضيع بوجه الغبار الذي يحتضن خاصرة
النهر ،أم ترحل متسكعاً في سطور الوهم عن بيت تركته يوما يضم أعز الناس؟
عليك أن تربط مفاصلك التي أكلها الروماتيزم إمّا أن تكون قلماً أو فوهة
بندقية بوجه العاصفة ،لا تكن زورقا بلا شراع ، تائهاً وسط البحر كل
ماتبقّى لك سوى هذا القلب الجريح وبقايا حنين ، مدينتك لم تعد تميز
ليلها من نهارها ..فهل تعرف الآن أنك تطوي المسافات وسط ليل بهيم ،تمضي من
تيه إلى تيه ..أصوات الرصاص غدت سمفونية مستمرة لحاكِِ لا يتوقف عن
الدوران ،انفجار هنا وانفجار هناك..سبعة أيام مع عروسك ،لم تكمل يومك
الثامن إلاّ في زنزانة يزعقُ في ثناياها الموت ورائحة العذاب ،كم سنة قضيتَ
في الزنزانة.. هل تستطيع عدّها ؟ لا تتذكر شيئا .. النورلا تحضى
برؤيته إلاّ في ساعة اخراجك من الزنزانة نحو غرفة التعذيب .. هل تعرف
تلك الطريق التي تسلكها الآن ...الا ترى أن الطريق يتقيأ قلقا وخوفا
وجنودا ورشاشات تقرأ الوجوه ..جاءك الصوت من حيث لا تدري ..التفت نحو
مصدره يطالعك وجهٌ أحمر : _إلى أين تمضي..تحدّثَ معكَ بالإنجليزية ذو الوجه الأحمر ،يترجمُ لك صاحبه بسحنته الآسيوية ، يسـألكَ إلى أين انت ذاهب ؟ تقول له ببساطة :
_.لا أعرف ..يشمُ رائحتك ويسشمئز . ثم .يهمس في أذن ذي الوجه الأحمر .يهز
رأسه وهو يبتسم بسخريه وهو يشير لك قائلا (go..go)عرفوك كنت سجينا من
رائحتك المقرفة ..لن يتعرّض لك احد بعد الآن ..أغرقك ضجيج الكبرياء حتى
استوت لديك الكرامة والمهانة ،هل حدثته عن قدميك العاريتين وعن (فلقة)
التعذيب والضرب ب(كيبل )الكهرباء المنقوع بالملح ..هل يعلم هذا الأمريكي
بالحبل الذي ربطوه في (..........)كي لا تفرغ مثانتك ؟هل يعلم بقطرات الماء
التي كانت تنزل قطرة قطرة فوق أُم رأسك ليلا ونهارا ؟ بغتةً
يطرَقُ سمعُكَ الضعيف أصوات لأقدام تقترب ..تلتفتُ ببطء ، ثمة رجل كبير
يركض لا هثاً يحمل كيساً على ظهره ..يجري خلفه شابان صغيران يحملان سلاحاً
،يختلي خلفك باكيا ،يلوذُ بك ، يدفعك أحدهم ويمزق الثاني صدر العجوز
باطلاقاتِِ سريعة ،يحملان الكيس ويهربان في أحد الأزقّة . لا أحد ينصتُ
لعويله ..بعد لحظات يهمد وينقطع أنينه ،تتركهُ وتمضي ..روحكَ تئن من
الوحدة وبطنك يمزّقها قيد الجوع ..كم أحصيتَ من الشوارع ومتاهات الغياب
واكواخ الانكسارات ..لتقودك قدماك لدى باب (البنك المركزي ) ،تباغتكَ خناجر
الغدر ورصاص الموت المنبعثة من بوابة الجحيم . ،جثثٌ في الباب وجثثٌ
آتية من عمق البناية ،إنهم يسرقون ما تبقّى في البنك ،كلمّا خرج جماعة
يحملون أكياس الدنانير ،تجد من يقتلهم عند العتبة فيحمل الغنيمة رجالاً
آخرين ،تنظر إلى القتلى عند باب الرجاء، تتركهم وترحل،يصيح بكَ أحدهم
..تلتفت إليه ،يغطي وجهه بيشماغ ،عيناه تنظران اليك بوحشية: _أنتَ مع من ؟ _لستُ مع أحد .
قادتك قدماك نحو شارع (الرشيد) .لطمتكَ ضجة المجنزرات ووحشة المحال
المغلقة .. تخرج متجها نحو ساحة (الوثبة) .. عبرتَ نحو الأزقّة القريبة
،الرصاص الذي انهمر عليك من فم الزقاق جعلك تدخل دارا مجهولة بابها نصف
مفتوح . ،فوجئتَ بامرأة كانت غافية ترضع طفلها متكئة برأسها على الجدار
حين شاهدتك، صرختْ ،أردتَ ان تشرح لها سبب وجودك ..لم تسنح لك الفرصة
بالدفاع عن نفسك ..تقدّمَ منك أربعة رجال كانوا في الغرفة المجاورة
،أوثقوك بالحبال وأشبعوك ر كلاً يأحذيتهم الرياضية الجديدة ، وعلى وجهك
تركواآثار قبضاتهم الغاضبة ،حملوكَ كنعجةِِ جاهزة للسلخ ..وجدتَ نفسك
ممدّدا فوق الرصيف المقابل ،تقترب منك سيارة (همر) عسكرية ببطء .. عبر
النافذة الضيقة.يخرجَ لك أحدهم رأسه الأسود، صائحا بك بلكنة عربية هازئا : _أوووه ..آلي بابا ....أوكِ.
..تركوكَ تلعق الرصيف.. وراحوا يقطعون الساحة باتجاه شارع (الكفاح)
..فيما بقيتَ أنت تتعقب آثار أحلامك التائهة تفكر بأشجار طفولتك وجنون
صباك ،وزيجتك التي لم تكتمل ، وحنان أمك المفقود وحبلك السرّي الذي تمنيتَ أن لا يُقطع أبداً .
إرسال تعليق