يشعر أنه مثل المشردين يمارس غواية التسكع على أرصفة ليل داج في شوراع
المدينة، يغمره فيض من وجع قديم ،يتجددكلما شاهد أمرأة تشبهها،يتملكه حنين
كبير يأخذه إلى أحلام متمردة في هدأة من جراحه،جنونه المستعر يغرقه في تيه
لا حد له ، يطوف في الشوارع والميادين يتخطى بين صور الأموات الذين مضوا
وبين جموع القتلى ،كم من قتيل هوى يذكره التأريخ ،كم من عاشق مات حتف أنفه ،
يقف يرقب من بعيد نافذتها الموصدة . ،ليس ثمة ضوء ..يستعر جمر مواقده
ويرحل يجر قدمين أتعبتها المشاوير ليعود أدراجه من حيث أتى، يقضم جوعه
الأبدي، وحنينه المجنون اليها يذوب من فرط اشتعاله ،يتيه في دروب عتيقة
لاحلام متكررة تزيد من سأمه ..ينظر إلى الشوارع والأماكن التي كانت ملكه
لوحده ،كم من شارع سارا فيها معا ،وكم من مقهى توقفا عندها ،كم من مطعم
رخيص تناولا فيه أكلات كانت أطيب من الشهد ..يعود إلى داره بعد منتصف الليل
..يدخل غرفته ويتمدد فوق سريره ينظر إلى النجوم عبر النافذة ،غامت أزمنته
وتشظت صورتها في السماء المفتوحة ،تحطمت كأسه بيد النادل في أقبية السراديب
القديمة ،تعب من الشراب ومن أصنافه.. حطّم رأس النادل وهجر تلك الأماكن
السرية ،عندما دخل السجن لم يتغير شيء في حياته ..لا شيء سوى الضياع .نسي
كل شيء إلاّ هي لم يستطع نسيانها ،يتملكه شوق لرؤيتها ..يعد الايام
والليالي كي يحظى برؤيتها ،كيف تتزوج غيري وهي التي عاهدتني على الانتظار
..خمس سنين مرت من السجن وعندما خرجت علمت انها تزوجت غيري ،هل أغادر الى
وطن آخر ،هل أشعل المدينة بالحرائق وأرحل ؟هل أغيّر وجه الشمس وأمشي بين
حشود الظلام أي طرق اسلكها ؟..هل كُتب علي أن اعيش المنفى أنا الغريب داخل
روحي ..قالها ونهض من فراشه .أغلق النافذة ..اقتعدَ كرسياً كان قريباً من
النافذة وسحب سيجارة من علبة كانت في جيبه ..أحنى رأسه والتصقت نظراته
التائهة فوق سطح الطاولة الصغيرة ..شعر أنه يحتضر .اختلاجات روحه حومت
فوق ذاكرته النازفة ووجوه الموت المتلونة ..وجوه ممسوخه لاشكال غريبة بدت
ترتسم ..رفع قبضته وأنزلها بقوة فوق سطح الطاولة ..أوجعتة كفه من تلك
الضربة،فرك يديه مع بعضهما ..العمر تعدى الثلاثين وليس ثمة من يملا فراغ
روحي ..بلازوجة ..بلاأطفال..بلاأم ..بلاأب ..الأشقاء لم يسألوا عني منذ
دخولي السجن ..لم أقتل النادل بلا سبب ..كنت ثملا وسمعته يهددني ...أقسمَ
أنه سيشكوني للحكومة لأنني شتمت الرئيس ..نعم أنا شتمت الرئيس وندمت
على ذاك وتوسلت إليه أن لا يخبر أحدا بذلك ..ولكنه أصّرَ ..ماذا أفعل
؟.قذفته بزجاجة العرق ..سقط على الارض والدم ينزف من رأسه ...لم اكن أصدق
أنه مات بسبب زجاجة العرق ..زجاجة عرق تقتل رجلاً ضخما رأسه كرأس الثور
..تشابهت الليالي والنهارات عنده ..عاد من جديد يحتسي الخمر ..سار وحيداً
كزورق وحيد وسط الأمواج،حملته رياح الوجد ،اختفت كل الخطوات في ليله المعتم
الا خطواته تطوي الشارع طياً ،لا ح له بيتها من بعيد ،أخذته العبرة وساحت
دموعه على خديه ..وصرخ : __بابك الموصد متى يُفتح ..هل علي ان أسال
العابرين عنك .إلى متى تختبئين في معطفه ..أخرجي لارى وجهك المفقود في
المتاهة ...جلس على دكة الرصيف قبالة النافذة العالية ..طفق يمعن النظر في
الستارة الصفراء المنزاحة قليلا ،الضوء الخافت المنبعث منها يحفزه للبقاء
لعلها تظهر خلف النافذة ،رفع كفه وأفرد سبابته وهتف : __هل أتوسد يأسي
وأغفو حزيناً وذراعاك تحتويانه ..هل هو الآن يحيطك بذراعيه وعيناه في عينيك
..آه يا حريق روحي ..بالكاد أستطاع أن يقوم من جلسته وعندما انتصب واقفا
صاح بصوت عال : _أنظري إلي ولو قليلا ..لا تؤاخذي جنوني بك ..متيّم أنا
بك انظري لي للحظة واحدة ..أما آن لك أن تلقين مرساتكِ في بحر الجنون
..أنا مجنون ..أنا مجنون ليسمع كل العالم أني مجنون..لاح له من وراء
النافذة ثمة خيالا باهتا ..قطب مابين حاجبيه ركز نظره ..تشكلت الصورة أمامه
بوضوح ..رأى ظل رجل ..انكفأت الستارة وبان منها ظل لقامة رجل يقف ينظر
إليه مسندا كفيه فوق سطح النافذة السفلي....استدار تاركا صورة النافذة خلفه
تتوهج بضوء ساطع ..سار بضع خطوات ثم التفت بنظرة أخيرة عله يرى زوال صورة
الرجل التي أقلقته ..فوجئ به يقف على مقربة منه هاتفاً به : _اسمع
أيها المتشرد ..إن شاهدتكَ أمام داري ثانية ..لن أرحمكَ أبدا .....لم يفه
بشيءتركه وحث الخطى سائرا بلا هدى .. في عتمة الليل في هزيعه الأخير .
يستفزه صوت المؤذن من بعيد...تنأى به المسافات على قارعة أمنياته .. تقوده
خطواته المتعثرة نحو منفى الخراب
إرسال تعليق