( سيميائية العتبة / مفتاحية الدلالة النصية )
ـ دراسة تحليلية لنص ( مطامير ) للشاعر مهدي سهم الربيعي ـ\\بقلم الاديب والناقد الاستاذ باسم عبد الكريم الفضلي ..
فراغٌ كثيفٌ
ارتباك
صدى قلبي يتلاشى في صمتٍ عميقٍ
أكادُ اسقطُ أرضاً
كأني مخمورٌ يتأملُ قمراً بلورياً لم يكتملْ
رُمِيتُ كخرقةٍ عتيقةٍ في طريقٍ
تُسحَق دون انتباه
أرغبُ في الصراخِ ..أو الفرار
الصمتُ ينذرُ بخطرٍ أجهلُ هويتَه
ضوءٌ خجولٌ ينامُ فوٍقَ الأسطحِ
ينسابُ ببطئٍ فوقَ أطلالِ الأسوارِ العتيقةِ
يتركُ بقعاً مخيفةً في رأسي
متراً أو مترين ليفضحني
صوتٌ يُطاردني .. يَصطادني في كلِ همسةٍ
اِنكَ تحتَ النافذةِ القبرِ
مطاميرٌ بذاتِ السجان..مع
عشقٍ شاحبٍ أصابه الجذام
هزائمٌ ..
دَينٌ أزلي ..
عواءٌ ..
ليسَت سوى طريقٍ واحدة
آهٍ هذه المرة ..ككلِ مرةٍ
الطريقُ تسرقُني
خُذني أيها الملل
ما ابذلهُ ضدَ إرادتي يوازي هذا الكبرياء
من الحجارةِ أصنعُ نفسي
من المخاوفِ أقدسُ الآلهةَ
أيُ وهمٍ بعد الآن
لا يستحقُ الجلال
لا نورٌ في موائدِ الملائكةِ
وبين الذاكرةِ والمحو
كنت أجددُ محوي
نسيان المحوِ .. المحو المتزايد
اليومُ بعد اليوم ِ
الأوجاعُ تسرقني
تارةً أكون على سريرٍ من القشِ
وأخرى , أحشو جسدي بالنساءِ ورائحةِ الخوف
أردتُ الأعماق , رُصدتُ كجلدٍ مُتعفن
من سفالاتِ البطولةِ وشجاعةِ العقارب
عرفتُ أني أسيرُ أسفلَ السورِ
حيثُ ينقسمُ قاطنوه
بينَ الدموعِ والدموعِ فقط
لا شجاعةً أعظمُ من متابعةِ الرقصِ
على أسلاكِ الرأسِ
العمرُ المتقطعُ جثتي
والصمتُ ..
ذات الصمتِ يتسلل إلي
ببرودٍ وبلا حركة
حتما قد رقدت أبدا .
يمكن للعتبة ، ان تفتح المكنون النصي الداخلي ، وتؤشر بَوصلياً ، الى المسالك القرائية ، التي يمكن الركون الى سلامة تأويليتها لدلالاته ومقاصده ، لذا فهي نمامة ، تشي بأسرار النص ، مهما شفَّر الكاتب مرسلاتها ، و أوغل في انزياحيتها ، أو أسراف في انغلاقيتها ، فالعتبة منظومة سيميائية تواصلية و دلالية، مهما ألبسها الشاعر اشكال الاصولية او الحداثة ، أو غايَر ببنتها الاسلويبة ، تبقى ملتصقة بشغاف النص ، وهي ( كنصٍ موازٍ كما يذهب معظم المعنيين بالدراسات النصية ) منساقة وراء ذاتيته التعبيرية ، و اخلاقياته الكتابية ، ووفق معاييره الذوقية وقياساته الجمالية ، المرتكزة على انتمائيته أو لاانتمائيته ، الفكرية / الثفافية ، لمؤسسة ايديولوجية معينة،
ونص ( مطامير ) للشاعر مهدي سهم ، ذو لغة قلقة ، معترضة ، محتجة على كل ماهو خارج المعنى الإنساني ، ومبرراته الوجودية ، لغته اختارت لنفسها كل ما ينزع بها للحكمة ( بمعناها المعرفي الخاص بالشاعر ) ، و أصولية المعاصرة ( بمعنى ان معاصرته غير تغريبية ) ، فلا انسياق وراء زائف التجديد ، ولاإنقطاعية تامة عن الجذور ، تعتمد في بنيويتها الاسلوبية تقنيات ( الصورة ، الترميز ، الإيحاء ، الانزياح ،المقاربة والتكثيف ) لتُشكِّلَ خطابها المتعدد المقاصد و المعاني ، وتوليدها للدلالات والمرسلات ، بقصدية الوصول الى تحديد المعنى الكلي للنص ، ونص بهذه السيميائية الدلالية المتعددة ، يجب ألّا تكون بنية المدخل اليه ( عتبته )، متعدد الايحائات ، مختلفة الاشارات ، كي لاتفقد صفتها المفتاحية ، وتتحول الى ( نص تضادي مضلل ) للقاريء ،
وفي دراستي هذه سأشرِّح عتبة النص ( مطامير ) ، لنتعرف على سيميائيتها الدلالية ، وبنيتها الاشاراتية ، وتوظيف ما نحصل عليه من محدِّداتٍ قصدية ، في تعميق قراءتنا التأويلية لبُنية النص اللغوية ومعانيه المضمونبة ، لتحقيق الفهم المطلوب لمعانيه الفرعية ، ومن ثم مشاركة الكاتب في انتاج معناه النهائي .
المطامير لغةً : جمع مطمورة ، وهي مكان تحت الارض ( حفرة او قبر )، لطمر ـ دفن ـ الاشياء ، والدفن ( ملء الحفرة بالتراب حتى بغطيها تماماً ولايترك فيها أيةَ فجوة او فراغ ) ، هو مايعطي للحفرة موقعها التحت ارضي ، وبدونه تبقى الحفرة مجرد مكان عبثي الملامح ( منخفِض ) عن مستوى سطح الارض لاأكثر .
ومن معاني المطمورة الإصطلاحية : السجن ، وهو مكان محدد الملامح ( له طول وعرض وارتفاع ، معلومة القياسات ) فوق ارضي ، لتغييب / نفي الاحياء فهو بهذا متقاطع ، وصفاً و موضعاً ، مع المكان الاول
نحن هنا اذاً امام دلالة مُربِكة مركَّبة من دال واحد بمدلولين متضادَي المعنى ، ولما كان نص ( مطامير ) من النصوص الهادفة ، لما يحمله من رسالة ( فكرية / موقفاتية ) معترضة ومتمردة على ( الآخر ) المؤسساتي السلطة ، ( كما سيتضح ذلك لنا من خلال هذه الدراسة ) ، فهو لابدَّ أن يكون ذا خطابٍ متين في بنيته الدلالية ، كي يضمن ايصال ( معنى / مضمون ) رسالته للفاريء ، بلا ضبابية شيفراتية ، أو تشتتية اشاراتية ، ومتانة البنية هذه تتطلب سيرورة حدَثية متصاعدة ،تنطلق من نقطلة الشروع ( أ ) ، لتحطَّ في نقطة الرسو ( ي ) على ضفاف المعنى النهائي للنص ، المطلوب تشكُّله في وعي المتلقي ، لذا يتحتم نفي وإزاحة احد مدلولّي ذالك الدال ( مطامير ) ، لتأمين تلك النقطة الشروعية ، مما يمثل مدخلاً قرائياً تقاربياً ، لمجمل مفاصل النص ، وهنا تتجلى قدرة وتمكنية الشاعر من ادواته التعبيرية ، لتحقيق هذا الهدف ، وشاعرنا أكد قدرته هذه ، في مطلع النص ( يمكن عَدُّ المطلع من مكملات مفهوم العتبة ) فهو يقول :
فراغٌ كثيف
هنا اشارة مركبه ( صفة + موصوف ) إزاحيًّةُ الدلالة كما يبدو ، ، فهي ازاحت المدلولَ اللغوي ( القبر ) ، وأكدت الآخر الاصطلاحي ( السجن ) ، فالمقابر / التحت ارضية المكان ، يملأها التراب تماماً ، كما اسلفتُ ، ولايترك فيها ايةَ فجوة فضائية ( فراغاً / خُلُواً ) مهما كانت ضئيلة ، فكيف ان كان الفراغ ( كثيف ) ؟ ، أما السجن / الفوق ارضيّ المكان ، فيتجسد فيه الفراغ بمعنَييه المادي ( مهما اكتظ السجن بالسجناء تبقى فيه فضاءات شاغرة / خُلوٌّ مكاني ) ، والحسي ( خُلوَّهُ من اثر أحبة السجين العاطفي ) بعزله عنهم وراء قضبانه ، هذا ما افضت اليه القراءة اللغوية الاصولية ( المعجمية) لتلك العتبة، لكن .. لما كانت اللغة الشعرية ، ولاسيما الحداثوبة ، لغة تقفز فوق المعاني المعجمية ، بل يتلاعب الشاعر بها خدمة لغرضه الدلالي ، فيلجأ للترميز والإختزال والتكثيف وغيرها من الادوات التعبيرية ، ( كما هو الحال في لغة هذه النص كما اسلفت ) ، لذا علينا اخذ هذه ( الاسلوبية اللغوية ) ، في نظر اعتبارنا هنا ، فنقول :
ان ( فراغ ) هنا ، اشارة رمزية دالة على الخلو المكاني ، من الأثر الحياتي بمفهومها المادي / البايولوجي ، لا بمعناها القِيَمي والفكري ( فهذان نتاجا وعي محسوسان ) ، والسجن اشارة دلالتها : تغييب الفعل الحياتي الممارساتي الحر ، وتفكيك دلالة هذه الاشارة ، ومن ثم إعادة تجميعها تأويلياً يكون : [ تغيب / نفي ، الفعل الحياتي الكيفي للسجين + موت أثره الوجودي الفاعل = قبور الأحياء ] ، و ، لكنْ .. كلاهما ( القبر ، السجن ) يعجز عن تغييبَ الوعي الحر لأصحاب تلك الاجساد الميتة ، لأنه متجدد الحياة ، من خلال ديمومة ما انتجه من افكار ، في عقول الاخرين ، لهذا علينا البحث عن دلالة اخرى للمطمورة ، تكون مقاربتها المعنوية مكافئة لتغييب الوعي ، لذا سنقوم بتفكيك شيفرة ( السجن ) الدلالية ، للحصول على اشارات اكثر فهمية لتلك العتبة ، تمكننا من تعرف صدقية( مفتاحيتها ) للنص ، وهذا سيساعدنا على فتح مغاليق سيميائيته البنيوية ، و تشريح تركيبته الرمزية وقصديتها ، وهو ما سيوفر لنا الادوات القرائية المناسبة ، للتفاعل التأويلي مع مضامين النص ، ومرسلاته الخطابية بصورة اكثر شمولية وعمق ، وصولاً لمعرفة غائيته الخطابية ، والمشاركة في انتاج معناه الكلي :
السجن : ( دال) مؤسساتي سلطوي متحوِّل ناقص اشاراتياً ، مدلوله : مكان سالب للحرية، سالب للزمن ( مدة الحكم القضائي ) ، ومقاربته الدلالية : التضادية الحياتية بين من هو داخل / خارج اسواره ( الحياة فعل زمكاني متعدد الاشارات ، منها الحياة الفكرية و النفسية ) ، وهو مؤسساتي سلطوي ، لان هذه المؤسسات هي من اوجدته / انتجته ، لتغييب من تجرّمه / ( وفق قياساتهاوضوايطها النسبية للصالح / طالح ، من الافعال والافكار ) من الحياة العامة ، واداة تنفيذ ذلك التغيب هو ( السجان / الرقيب القامع ) ، وهو متحول ، بمعنى انه يتحول الى مدلوله وهذا يصبح داله ( مثلا : سلب الحرية بانواعها ، ومنها الفكرية ، تعني سجن / منفى ) ، وناقص الاشارة لأن دلالته لاتكتمل الا بوجود اخر ( السجين / المنفي ) ، فبدونه يغدو محض مكان كسائر الامكنة الباقية .
واذا اعدنا تأويلياً ، تركيب ما قككناه تغدو دلالة العتبة : السجن اشارة لتغييب دائمي أو مؤقت ( نفي ) ، للوعي ، لتضادية فعله ( افكاره ) مع ( مسموحات / ممنوعات ) مؤسسة ( آيديولوجية سياسية ، دينية ، ..الخ ) سلطوية شمولية .
لكن يتبقى على النص ان يكشف عمّا سكتت عنه العتية :
أية جريمة اقترفها السجين ؟ أهي فكرية معترضة أم تنويرية محرِّضة أم ...؟ ومن هي تلك المؤسسة السلطوية التي فرضت الحكم العقابي هنا ؟ أهي سلطة وضعية أم غيبية ؟ ، ثم أهو سجنٌ حقيقي مجسّد في الواقع أم جملة محظورات فكرية تحتل تلافيف الوعي ، قامعة ومغيبة ، لكل ماغ يتضاد مع نظامها الآيدلوجي القمعي ؟
سندرس النص مسترشدين بما وفرته لنا العتبة من مفاتيح قرائية، استخلصناها من تفكيكها ، يستأنف الشاعر قوله :
اِرْتِبَاك
الارتباك :يعني لاادرية اختيارموقف من فعل او امر ما ، اشارة تقاطعية الدلالة ( يقين / لايقين ) ، موحية برد فعل غير واعٍ على باعث او مسبب ذلك الفعل او الامر ، فما / من ، هو ؟ ( غياب السبب )
صَدَّى قَلبي يَتلَاشىى
تلاشي النبض : اشارة الى انفعالية لاارادية ( لاشعورية / من الآثار السايكولوجية السجنية على السجين هيمنة اللاشعور على الشعور المنسحب بفعل عدم انسجاميته الزمكانية مع الواقع المعاش ( السجن / المنفى )
في صَمتٍ عَميقٍ
الصمت اشارة ل(غياب ) الصوت ، فمن المُغَيِّب ؟ و ( عميق ) اشارة للبعد الشاقولي / الموغل في امتداده التحتاني , فأي عمق ؟؟ ولما كان الصمت اشارة حسية الدلالة ، فلابد ان تكون صفته ( عميق ) ذات نفس الدلالة ( الصفة تتبع الموصوف ) ، تراه صمت قابع في اعماق الذات ؟
أَكَادُ اسْقطُ أَرضا
وهو سقوط ذو مدلول ( لغوي ) فالاشارة ( ارضاً ) سلبته مدلوله الاصطلاحي ، اشارة الى احتدام ( التصارع اللاشعوري ) الذي قد يفضي الى فقدان التوازن ( الفكر/ حسي ) ،
كَأَنّي مَخْمورٌ يتأَمَّلُ
الاشارة ( مخمور ) دالة على تغييب الوعي ، وهي متقاطعة مع الاشارة ( يتأمل) / وجود وعي ، دلالة ، مع مما يعني ان ( مخمور ) دال متحول ( من نتائج التفكيك اعلاه ) اي : ان كل من غُيٍّبَ وعيه يبدو كالمخمور ،
قمَرًا بِلَّوريا لَمْ يَكْتَمِلْ
القمر اشارة لطارد الظلام ( النور ) ، و( لم يكنمل ) اشارة كاشفة ل( يتأمل ) ، اي انها كشفت سر التأمل إياه ، فمصدر النور ( قد يكون فكرة تضيء العقول الغافلة او الجاهلة ) لم يكتمل بعد ( ايحاء بوجود مانع ضوئي / المؤسسة السلطوية ، يحول دون اكتمال منتج تلك الفكرة / الوعي )
التحليل القرائي : عطفاً على تشريح العتبة ، البداية الفعلية للنص ( ارتباك ) اشارة غيابية ، تلتها عدة اشارات مماثلة ، توحي بوجود ( فاعل / مسبب ، مستتر ) داخلي الوجود ( في الذات الواعية ) ، بتحكم بوجوده الخارجي ، يفقده اتزانه و يتهدده بالسقوط ، والمقاربة القراءئية له : الرقيب القامع للوعي / سجان الوعي .
ويمضي الشاعر في قوله :
رُمِيْتُ كَخرقةٍ عَتِيقَةٍ
فِي طَرِيق
تُسْحَقُ
دُونَ اِنْتِبَاه
اشارة الرمي دلالتها التغير المكاني للشيء المرمي وهي تكافيء الطرد ، النبذ ، الازاحة
و اشارة السحق دلالتها الإفناء الوجودي، ومكافؤها الإعدام والقتل ، وهما اشارتان لوجود فاعلَين مجهولَين ، أو مسكوت عنهما لسبب اضطراري ،
اما الاشارة غير المعرفة ( طريق )، فدلالتها الدرب الخارجي مدنياً ( تسبة الى مدينة ) ، فالطرقات داخل المدن تكون معروفة الاتجاهات ( من ـ الى ) ، ولها اسماء وارقام محددة ، والمقاربة الدلالية هنا : طريق النفي ، فهذه تكون بلامح او وجهة محددة ( من ـ لا الى )، وهو نفي مكاني ( نبذ للمهجر ، او انساني ( يكون الحُرُّ منفياً في عزلته )
والنبذ ( الرمي )، و الإفناء الوجودي ( السحق ) ، واقعان على نائب فاعلهما المشترك ( تاء المتكلم في الفعل الاول ، والضمير المستتر / هي، في الفعل الثاني) بدلالة (كاف التشبيه ) في ( كخرقة ) وهذه بدورها اشارة الى جُزَئية مادية عدمية النفع ، ميؤوس من فائدتها ( عتيقة ) ،و هي منتزعة من نسيج مادي ( بعض من كل ) مقاربتها : كيان انساني فردي ( جزء من نسيج انساني / مجتمع ) معطوب الفائدة بدلالة ( تسحق ) ، فالخِرقُ تُمزّق أوتحرق ، وترمى في حاويات القمامة ، أما الرمي ( الطرد او النبذ ) في طريق النفي ، والسحق الإفنائي ، فيكون لإنسان عديم او متقاطع النفع مع مؤسسة تمتلك ( سلطوياً ) هذا القرار العقوباتي القمعي بحقه ، دون أن يثير هذا اهتمام احد ( دون انتباه ) ، أما مخافة ( من غضب تلك المؤسسة عليه ) أو انسياق وراء ( قدسيتها ) وبالتالي ففعلها ذاك صحيح ( فهي معصومة عن الزلل ) لايجوز الاعتراض عليه .
التحليل القرائي : استكمالاً لما جاء في التحليل الاول ، الفاعل المستتر يفرض ارادته بالإزاحة ( التغييب المكاني ) والإفناء (التغييب الزماني ) ، على من يتضاد معه رأياً او موقفاً في امر ما ( فهو يعتبره معدوم النفع ) ، فهو اذاً رقيب مؤسساتي ( يملك القوة العقابية ) ، وفعله هذا مبررٌ فلا يثير انتباه احد ( من الجمهور ) ، ويسترسل الشاعر قائلاً :
أَرغبُ
الرغبة اشارة حاجاتية معتملة في دواخل الراغب ،تبحث عن اشباع
في الصُّرَاخ..
أَوْ الْفرار
اشارة الصراخ ، دلالتها : حضورية مكانية إحتجاجية على أمرٍ مرفوض أو ألم ، ودلالة اشارة الفرار : هروب ، غيابية مكانية بحثاً عن أمان ، والاشارتان متضادتان إيهامياً بدلالة ( أو العاطفة التشكيكية ) / المقاربة : ترددية موقفية ،
القراءة التحليلية : صوت ( الأنا / صاحب الفكر ) يدل على ( فردانية ) ، مقابل آخر جمعي مؤسساتي سلطوي ، / عدم تكافئية قُدراتية ، مما تسبب في حيرته الإختيارية بين مواجهة ذلك القامع الأقوى المعاقِب ( بالرمي ) و( السحق) ، و الهروب الخلاصي ، والحيرة شعور انساني مألوف ، والقصدية الدلالية لها : المفكر الواعي في النهاية انسان
الصَّمتُ
إشارة تأكيدية لماقبلها ( صمت عميق ) ،للدلالة على رسوخ حضور الغائب صوتياً
يُنْذرُ بخطر أجهلُ هويتَه
الإشارة ( ينذر ) توحي بفاعلية ذاك الحضور رغم استتاره ( الصمت فاعل مستترلفعل الإنذار ) ، ودلالتها : السطوة القرارية / المكافيء : سلطة امتلاك قوة القرار بإلحاق الضرر ( خطر ) ، وذلك ( الغائب صوتياً / الحاضر فعلياً ، هو عاقل ( مؤسسة حسب القراءة الثانية آنفاً ) بدلالة ( هويته ) فالهُوية : اشارة مركبة من [ هُو ( آخر عاقل ) + ياء النسب + تاء التأنيث ] ، ولأن الفاعل مستتر ، مؤسسي السطوة ، متعدد القرار ، فالشاعر لايعرف تقدير ( أجهل ) مدى ضرره عليه .
ضَوءٌ خَجُول ينامُ فَوْقَ الأسطحِ
الاشارة ( ضوء ) العلوية المكان ( فوق الاسطح )، و( خجول ) بمدلوله : الشعور باللاكمال ،/ بنية دلالية يقابلها ( قمر لم يكنمل ) المذكورة آنفاً
يَنْسابُ بِبُطْءٍ
ينام : دلالة خمود الحركة / ينساب: دلالة حركية ، الاشارتان متضادتان توحيان بانتشارية فاعلهما ( الضوء ) فهو وان كان في مكان محدد الا ان آثاره منتشرة في كل الجوانب من حوله / المقاربة الدلالية : الفكرة النيرة فهي وان كانت موجودة في ( العقل ) الّا ان أثرها ( تأتيرها ) في وعي الاخرين ، يمتد الى كل من يتعرف عليها رغم البعد المكاني بينهما ، وان بعد حين ( ببطء )
فَوقَ أَطلالِ الأسْوارِ العَتيقَةِ
اطلال ، اشارة لبقايا اثر إمّحت معالمه وانتهى زمنه / مكافؤها الشيء الماقبلي السلفي ، الاسوار ، اشارة لحواجز( مادية كالجدران / حسية كالمحرمات الفكرية وغيرها ) شاقولية ( غائرة في الاعماق ومندفعة علواً ) محيطة بمكان ( مادي كالسجن / حسي كالمنفى الفكري ) ، وتعزله عما هو خارجه ، عتيقة ، اشارة تأكيدية لقِدم الاطلال ،
القراءة التحليلية : الفكرة النيرة تفضحُ قَدَم ولا تناسبية زمن الحواجز العقلية البالية ( افكار المؤسسة المتوارثة كمقدسات مغروسة في وعي الجمهور ) ، مع الوقت الحاضر ، حواجز تعزل الوعي عن (تقبُّل / تقدبم ) الافكار التعارضية مع تلك المؤسساتية ، لكن الافكار بدلالتها الانتشارية ، تمتد متجاوزةً تلك الحواجز .
وتستمر انكشافية اشارات النص كلما توغلنا في متنه وبين تصاعدية بنائه الحدّثي ، لاسيما ان العتبة ( مطامير ) تمثل مرسلة خطابية، تتفق دلالتها المعنوية كما مر بنا ، على الايحاء بمفهوم ( الفقد / الالغاء الوجودي ) ،
فنراه يقول :
يَتركُ بُقَعٌ مُخِيفَةٍ
يترك اشارة الى أثرٍ مخّلَّف من عنديات فاعل ما ، ولما كان الضوء هو فاعل ( يترك )، فإن أثره ( بقع ) من عندياته فهي اذاً بقعٌ ضوئية / مقاربتها مصادر للفكرة النيرة ، و الاشارة (مخيفة ) دلالتها توقع الضرر لأنها مسببة لعقاب المؤسسة إياه .
فِي رَأْسيْ
الرأس اشارة لمكان الوعي
مِتْرٌ أَوْ مِتْرَانِ لِيَفْضَحُنِي
القراءة المعنوية : سبب الفضيحة هنا ان الشاعر آمن بالفكرة النيرة المحظورة مؤسساتياً ، وايمانه بها وان كان داخلياً ( في اعماق وعيه ) الا ان صدقية ذلك الايمان انعكس على موقفه الحياتي المعلن بارادته او بغير ارادته ، وهذا الاعلان فضحه لدى تلك المؤسسة ، مما يحتم عليها معاقبته ( دلالةالفضيحة: امر منكر يتم كشفه ويوجب العقاب عليه )
صَوَّتٌ يُطارِدُني..يَصْطادُني في كُلِّ همسةٍ
انكشف مسبب الصمت وخرج عن سكوته وصار له صوته القامع ( الرقيب )، بدلالة ( يطاردني / يلاحقني ) ، (يصطادني،/ يأسرني) مع ( كل همسة / دلالة على ملازمة الرقيب اياه ) فهو يستشعر فيها صدى لتلك الفكرة المهددة لمؤسسته )
اِنكَ تَحْتَ النَّافِذَةِ الْقَبْر
القير اشارة كاشفة لدلالة ( المطمورة ) وهو قبر الاحياء كما اسلفت
مَطَامِيرٌ بِذَاتِ السَّجَّان.. مَعَ
السجان المحدد الذاتوية هنا ، اشارة لرقيب المؤسسة القديمة الكينونة في الوعي الجمعي
عشقٌ شَاحِبٌ أَصَابَهُ الجُذا م / العشق اشارة تحررية ( خروج عن الرتيب من العلاقات ) ، شاحب اشارة لانقطاع مقبوليته لدى الاخر ( المؤسسة )
هَزَائِم.. // نتائج خائبة لحرب ما ، مقاربتها محاربة المؤسسة
دَينٌ أَزَلَّيٌّ.. // اشارة الى التبعية الابدية لسطلة تلك المؤسسة
عِوَاء..// اشارة لحراس المؤسسة ( اختزالية تشبيهية )
ليسَت سِوى طَرِيقٌ واحدة // اشارة تأكيدية لدرب المنفى
آهٍ هَذِهِ المَرَّةَ.. كَكُلُّ مرَّةٍ
اشارة مؤكدة لتكرار النفي / مقاربتها الدلالية : تكرار محاولة التمرد على احكام المؤسسة
الطَّرِيقُ تَسْرِقُنَّي
بعد ان فضحت سيرورة الحدث النصي دلالة (طريق ) / النفي ،اصبح معروفاً وخرج عن تنكيره بتعريفه ( بأل ) ، بل وراح الشاعر يجهر بتلك الدلالة فيخبر عنها انها ( تسرقني )
القراءة التحليلية : لان وعي الشاعر حر ، فقد تقبل الفكرة النيرة ، وفضحه ايمانه بها حد انتباه السجان المؤسساتي ، فراح يلاحقه ليوقع عليه العقوبة ، ويرميه على قارعة طريقي النفي لتسرقه من وجوده الانساني
تصاعدية النص الحدّثية تبدأ بالهبوط ، دلالة على الاعياء و الوهن اللذين اصابا حامل الفكرة التضادية للمؤسسة، فهو فرد يجالدها وحيداً / لايملك سلاحاً الا وعيه ، وتلك سلطوية شمولية مدججة بأسلحة الإفناء والمحو الوجودي ، والنفي والتغييب ، لذا نجد الشاعر يقول :
خذني أَيُّها المللُ
ما ابْذُلهُ ضِدّ إرادتي يُوَازِي هَذَا الْكِبْرِيَاءَ
مِنَ الْحِجَارَةِأَصْنَعُ نَفْسي
مِنَ الْمَخَاوِفِ أَقْدُسُ الْآلِهَةَ
أَيُّ وَهُمْ بَعْدَ الْآنَ
لَا يَسْتَحِقَّ الْجَلَاَلُ
لَا نَوَرُ فِي موَائد الْمَلَاَئِكَةِ
اشارتا ( الآلهة ، الملائكة ) كاشفتان ، دلالتنان على ( سلطة غيبية )، وقد كشفتا ماهية تلك المؤسسة السلطوية المهيمنة على الفكر ، لكنها مزيفة ( اي وهم ) ، مطفأة القلب ( لانور في موائد الملائكة / رمز الرحمة وهذه موضعها القلب )
ويسترسل الشاعر قائلاً :
وبين الذاكرةِ والمحو
كنت أجددُ محوي /
نسيان المحوِ .. المحو المتزايد
الاشارة (الذاكرة) دلالتها حضورية آثار مافات زمانياً من افعال او وقائع ، في الوعي / اللاوعي المكافيء المعنوي : عدم مفارقة ماخلّقه فعل / افعال ، من آثار في النفس ، المحو اشارة إزالاتية لشيء او اثر ما / المقاربة الدلالية : عدم مفارقة الآثار التي خلفها جلاده للمؤسسة في نفسه ، رغم تكرار محاولاته في محوها
اليومُ بعد اليوم ِ
الأوجاعُ تسرقني
تارةً أكون على سريرٍ من القشِ / اشارة للتشرد
وأخرى , أحشو جسدي بالنساءِ ورائحةِ الخوف / اشارة هروبية من الذات لتقاطعها مع صاحب الفكر النير
أردتُ الأعماق , رُصدتُ كجلدٍ مُتعفن
الاشارة ( الاعماق ) كاشفة تأكيدية لهيمنة تلك المؤسسة الغيبة على اعماق الوعي وشدة رقابيتها لكل من يدنو من سلطانها ، ونبذها اياه ( رصدتُ كجلد متعفن )
من سفالاتِ البطولةِ وشجاعةِ العقارب / اشارة خوائية لحقيقة مجد تلك المؤسسة
عرفتُ أني أسيرُ أسفلَ السورِ / الاشارة للسير دلالة على تواصلية ، مما يزبح ( الملل ، الاوجاع ، التشرد ) ، كما انها استمرارية جلادية ( اسفل السور )
حيثُ ينقسمُ قاطنوه
بينَ الدموعِ والدموعِ فقط // اشارة الى تشاركية حزنية بين من هم داخل / خارج سجن الفكر ، اولئك يبكون من خوف الضرر ، وهؤلاء على موت الوعي
لا شجاعةً أعظمُ من متابعةِ الرقصِ // اشارة الرقص دلالتها اعتراضية متحدية هنا ، فهي من محرمات المؤسسة الغيبية
على أسلاكِ الرأسِ // اشارة افراغية للوعي / الاسلاك مادية ميتة غير فاعلة ، تعارض الاعصاب مادية حية فاعلة ، المقاربة : دعوة المغيَّة عقولهم من قبل تلك المؤسسة ، للاعتراض
العمرُ المتقطعُ جثتي // اشارة لتبدد العمر في الجلاد ، حتى غدا المجالد مُضَيَّعَ الحياة ( جثة / جسم فارقته او انتزعت منه الحياة ) / المقاربة : شعور المفكر الحر بالقطيعة الحياتية عن الاخرين المؤسَسين
والصمتُ ..
ذات الصمتِ يتسلل إلي // اشارة الى معاودة المؤسسة هيمنتها
ببرودٍ وبلا حركة // اشارة الى استسلامية جسدية / تعارضية مع حركية الفكر
حتما قد رقدت أبدا
الاشارة ( حتماً ) دلالتها: الإلزام بالشيء و وجوبه ، الفعل الماضي رقد ( نام او سكن / من السكون ) اشارة ماقبلية لاتلغي الحاضر او المستقبل ، ( ابداً ) اشارة تأكيدية للمستقبل تضادية مع ماضوية ( رقدت ) / المقاربة : انتصار الشاعر لوعيه الحر، فان كان نومه / غياب الوعي ، قد أوجبته عليه تلك المؤسسة الغيبية ، فمستقبل تحقق فكرته النيرة مؤكد .
بذا استطعنا قراءة هذا النص المشفَّر بذكاء وحنكة ، قراءة تحليلية منطلقين مما وفرته لنا العتبة من مفاتيح دلالية ، ومقاربات استدلالية ، يسّرت علينا تفكيك شيفراته ، وتشريح سيميائيته الدلالية ، بلا اسقاطات دوغمائية من عندياتنا المعرفية الماقبلية ، بل بموضوعية متفاعلة ومتحاورة مع اشاراته ومرسلاته الخطابية ، مما مكننا من المشاركة في ( انتاج ) معناه النهائي . نص انما يدلل دلالة كبيرة على روعة الشاعر مهدي ، ومهارة لغته الشعرية ، وتمكنه الواعي من ادواته التعبيرية ،
ــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــ ـــــ/ باسم عبد الكريم الفضلي ـ العراق
إرسال تعليق