ســــاعة مع شاعر العرب الأكبر
محمد مهدي الجواهري
تأملات في قصيدة " طرطرا ---- !! "
بقلم / السعيد عبد العاطي مبارك – الفايدي
و تعني كلمة " طرطرة " توصيفا للسياسة -- وطرطور للسياسيين الملفقين
( أيْ طرطرا تطرطري تقدَّمي تأخَّري
تَشيَّعي تسنَّني تَهوَّدي تَنصَّري
تكرَّدي تَعرَّبي تهاتري بالعُنصرِ
تَعمَّمي تَبَرنطي تعقَّلي تسدَّري
كوني – اذا رُمتِ العُلى - من قُبُلٍ او دُبُرِ
صالحةً كصالحٍ عامرةً كالعُمري
وأنتِ إنْ لم تَجِدي أباً حميدَ الأثَر
ومفَخَراً من الجُدودِ طيَّب المُنحدرَ
ولم تَرَي في النَفْس ما يُغنيكِ ان تفتخري )
----------------
و هذه القصيدة تحاكي في الوزن والقافية قصيدة من العهد العباسي تسمى " الدبدبية "
للشاعر " علي ابن المغربي " :
أي دبدبه تتدبدبي أنا علي بن المغربي
تأدبي ويحك في حق أمير الأدب
وأنت يا بوقاته تألفي تركبي
وأنت يا سناجقي يوم الوغى ترتبي
وأنت يا عساكري يوم اللقا تأهبي
ها قد ركبت للمسيـ ر في البلاد فاركبي
ها قد برزت فاركبي في ألف ألف مقنب
أنا الذي أسد الشرى في الحرب لا تحفل بي
إذا تمطيت وفرقعـ ت عليهم ذنبي
أنا الذي كل الملو ك ليس تخشى غضبي
فمن رأى للهذيا ن موكباً كموكبي
أنا امرؤ أنكر ما يعرف أهل الأدب
ولي كلام نحوه لا مثل نحو العرب
هذه بعض قراءاتي المتواضعة من عمق ثقافتنا العربية التي يذخر بها تراثنا الشعري الخالد فحاولت ان امزج بين مطالعتنا عبر العصور حلقة متواصلة بين العباسيين و العراقيين المعاصرين في هذه التغريدة بغية توصيف ملامح الحياة في طرائف تحمل روح الشخرية و النقد اللاذع ---
و لم لا فالحضارة العربية مليء بامشاج من هذا التصنيف المبدع الرائع هكذا---
نعم ان شخصية الجواهري في شعرنا المعاصر تحمل دلالات فنية تكشف مسار الرمز في دلالات اسقاطية تعج بقضايا عديدة كانت تطفو علي سطح المعاصرة أبان فترة الاستعمار و الاستقلال صراعات جعلت الانسان العربي يعبر عن مأساة الواقع في رؤية تستوعب تجربة الابداع فهو مرآة الواقع من كافة الزوايا ----
و لم لا فقد تصدرت رائعة الجواهري ابن الفراتين دجلة الخير قصيدته التي تحمل السخرية بعنوان " طرطرا " و هي الملحمة الثائرة والمشهورة للشاعر العراقي الكبير محمد مهدي الجواهري الذي شرق و غرب بين متاهات المنافي و الغربة حتي فاضت روحه مع جراحات الألم و غياب الأمل وقضي نحبه و بقي شعره --- !!
و تعد القصيدة هذه من أجمل بل من أفضل قصائد الهجاء السياسي والسخرية النقدية التي كتبت بلغة الضاد الشاعرة .
و كأننا نعيش صدي أحداثها الآن بواقع مرير قد شخصه لنا الجواهري في ثقة بكل أطيافه ----
و هذه القصيدة تحاكي في الوزن والقافية قصيدة من العهد العباسي تسمى " الدبدبية "
و القصيدة الدبدبية هي لـ " تقي الدين ابن المغربي " علي بن عبد العزيز بن علي بن جابر، عاش في فترة الحكم العباسي، وصفه محمد بن شاكر الكتبي في كتابه فوات الوفيات بـ " الفقيه الأديب البارع، تقي الدين ابن المغربي البغدادي الشاعر المالكي؛ كان من أظرف خلق الله تعالى، وأخفهم روحاً، وله القصيدة الدبدبية المشهورة التي أولها " يا دبدبة تدبدبي "، وكانت وفاته ببغداد سنة أربع وثمانين وستمائة... "
والقصيدة الدبدبية غاية في الظرف والسخرية والمرح، وتعد من ادب المفاكهات والمسامرات، وهي طويلة جداً، لم اعثر عليها باكملها، هنا تجميع لأجزاء منها، وقد ارتبطت بقصيدة أخرى لا تقل عنها أهمية لمحمد مهدي الجواهري سنوردها في مقام لاحق ---
و التي مطلعها :
أي دبدبه تتدبدبي أنا علي بن المغربي
تأدبي ويحك في حق أمير الأدب
وأنت يا بوقاته تألفي تركبي
وأنت يا سناجقي يوم الوغى ترتبي
وأنت يا عساكري يوم اللقا تأهبي
ها قد ركبت للمسيـ ر في البلاد فاركبي
ها قد برزت فاركبي في ألف ألف مقنب
أنا الذي أسد الشرى في الحرب لا تحفل بي
إذا تمطيت وفرقعـ ت عليهم ذنبي
أنا الذي كل الملو ك ليس تخشى غضبي
فمن رأى للهذيا ن موكباً كموكبي
أنا امرؤ أنكر ما يعرف أهل الأدب
ولي كلام نحوه لا مثل نحو العرب
لكنه منفرد بلفظه المهذب
يصافع الفراء في الـ نحو بجلد ثعلب
ويقصد التثليث في نتف سبال قطرب
وإن سألت مذهبي فمذهبي المجرب
آكل ما يحصل لي ورغبتي في الطيب
وأشرب الماء ولا أرد ماء العنب
وألبس القطن ولا أكره لبس القصب
وإن ركبت دابة وإلا فنعلي مركبي
وكل قصدي خلوة تجمعني وللصبي
في البيت أو في روضة أزهارها كالشهب
ونجتلي بنت الكرو م أو بني القنب
ونبتدي نأخذ في الـ شكوى وفي التعتب
حتى إذا ما جاء لي برشف ذاك الشنب
حكمته في الرأس إذ حكمني في الذنب
يا مغاني اللهو والطرب بأبي أفدي ثراك وبي
لا تعداه الغمام ولا حاد عنه صيب السحب
حبذا دار عهدت بها كل معسول اللمى شنب
حيث كانت قبل فرقتنا فلكاً يجري على شهب
ونصيبي من وصالهم واصلاً نحوي بلا نصب
في بساتين المحول لا في قفار الجزع واللبب
بين أشجار تفوق على شجرات الضال والكثب
صفعوني لا عدمتهم وأضاعوا حرمة الأدب
فعلوا بالرأس ما فعلوا وأحالوني على الذنب
كأن في رأسي وأسفلهم شبه من حكة الجرب
و الخلاصـــة :
يروي الشاعر الجواهري قصة هذه القصيدة فيقول عن الأيام لتي كتبت فيها ( كان الجو السياسي – القصيدة نشرت في 26 آذار سنة 1946 لأول مرة – مملوءا بالنفاق والتزلف والخنوع لأصحاب المراتب العليا . وكان الركض وراء المناصب كبيرا . أما المعارضات فلم تكن بمستوى المسؤولية . وكان بعضها يترك مكانه لمجرد التلويح له بمقعد في المجلس " النيابي " أو في الوزارة . كانت بعض الأشياء أقرب إلى الابتذال ، لقد تعاون مصطفى العمري وصالح جبر على إغلاق جريدتي "الرأي العام " مما أثار حزنا عميقا لدي وحين زارني عبد الكريم الدجيلي وصديق آخر وجداني أخط بعض الأبيات بصورة ساخرة واستهزائية وبكلمات شعبية " طرطرة " توصيفا للسياسة وطرطور للسياسيين الملفقين ونبهاني (...) وحين نشرت القصيدة تهافت باعة الصحف على مقر " الرأي العام اضطر معه حراس المطبعة لغلق الأبواب ويقال أن بعض النسخ بيعت بدينار واحد أي ألف فلس في حين كان سعر الصحيفة بـ 10 فلوس آنذاك / الجواهري .. جدل الحياة والشعر ص198) .
إن الظروف التي وصفها الجواهري تكاد تتشابه إلى درجة كبيرة جدا مع الظروف التي يعيشها العراق اليوم تحت نيران الاحتلال الأمريكي البريطاني و الحلفاء ثم الصراع المركب في المنطقة علي جراح العراق المفتري عليه منذ فجر التاريخ أيضا
أجل أنها المأساة العراقية " الكبيرة " التي تجتاح مدينة السلام ودياره شرقا و غربا تحت سطوة التزلف للمحتلين في كل عصر و مصر و تبرير العمليات الاجرامية بعباءة السياسة و الدينمعا
مع بزوغ نعرة الطائفية عرب و اكراد " سنة - شيعة " الخ
مع قصيدة ( طرطرا ) لشاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري و التصوير الفني الابداعي في روح العبقرية الساخرة المعاصرة فيقول :
أيْ طرطرا تطرطري تقدَّمي تأخَّري
تَشيَّعي تسنَّني تَهوَّدي تَنصَّري
تكرَّدي تَعرَّبي تهاتري بالعُنصرِ
تَعمَّمي تَبَرنطي تعقَّلي تسدَّري
كوني – اذا رُمتِ العُلى - من قُبُلٍ او دُبُرِ
صالحةً كصالحٍ عامرةً كالعُمري
وأنتِ إنْ لم تَجِدي أباً حميدَ الأثَر
ومفَخَراً من الجُدودِ طيَّب المُنحدرَ
ولم تَرَي في النَفْس ما يُغنيكِ ان تفتخري
شأنُ عِصامٍ قد كفَتْه النفسُ شَرَّ مفْخَر
فالتَمِسي أباً سِواهُ أشِراً ذا بَطَر
طُوفي على الأعرابِ من بادٍ ومن محتَضِر
والتَمِسي منهم جدوداً جُدُداً وزَوِّري
تزَّيِدي تزبَّدي تعنَّزي تَشمَّري
في زَمَنِ الذَرِّ إلى بَداوةٍ تَقَهْقَري
تَقَلَّبي تَقَلُّبَ الدهرِ بشتّى الغِيَر
تصرَّفي كما تشائينَ ولا تعتَذري
لمن؟!! أللناسِ ؟!! وهم حُثالةٌ في سَقَر
عبيدُ أُجدادِك من رِقًّ ومن مُستَأجَر
أمْ للقوانين وما جاءَتْ بغَير الهَذَر
تأمرُ بالمعروف والمنكَر فوقَ المِنبَر
شيء أبى المعروفِ في شَويِّ امُّ المنكر
أمْ للضميرِ والضميرُ صُنْعُ هذا البَشَر؟!
تَعِلَّةٌ لصائمٍ فَطيرةٌ لمُفطِرِ
لمن؟!! اللتأريخ ؟!!وهو وفي يَدِ المُحَبِّر
مُسخَّرٌ طَوْعَ بنانِ الحاكم المُستَحِر
بدَرْهَمٍ تُقَلِّبُ الحالَ يَدُ المُحرِّر
قد تَقرأُ الاجيالَ في دُفَةِ هذا المحضَر
عن مِثْلِ هذا العَصْر أن قد كان زينَ الاعصُر
وأنَّه من ذَهَبٍ وأنّه من جَوهر
أم للمقاييس اقتضاهنَّ اختلافُ النَظَر؟
إنَّ أخَا طَرْطَرَ من كلِّ المقاييس بَري
أي طرطرا إن كانَ شَعبٌ جاع او خُلقٌ عَري
او أجْمَعَ الستُ الملايينُ على التذمُّر
او حَكمَ النساءُ حُكم الغاصبِ المقتَدِر
او صاحَ نَهباً بالبلاد بائعٌ ومشتري
او نُفِّذَ المرسومُ في محابِرٍ وأسطر
او أُخِذَ البريءُ بالمجرِم اخذَ طرطري
او دُفِع العراقُ للذلِّ أو التدهورِ
فاحتكمي تحكَّمي وتُحمَدي وتؤجَري
أي طرطرا تطرطري وهلِّلي وكَبّري
وطَبِّلي لكلِّ ما يُخزي الفَتَى وزمِّري
وسَبِّحي بحمدِ مأمونٍ وشكرِ أبتَر
اعطي سماتِ فارعٍ شَمَردَلِ لبُحتر
واغتَصِبي لضِفدِعٍ سماتِ ليثٍ قَسْور
وعَطرِّي قاذورةً وبالمديح بَخرِّي
وصيرِّي من جُعَلٍ حديقةً من زَهَر
وشَبِّهى الظلامَ ظُلماً بالصبَاح المُسفِر
وألبسي الغبيَّ والاحمقَ ثَوبَ عبقري
وأُفرِغي على المخانيثِ دُروع عنتر
إن قيلَ إنَّ مَجدَهمُ مزيَّفٌ فأنكِري
او قيلَ إن بطشَهم من بَطْشة المستِعمر
وانَّ هذا المستعيرَ صولةَ الغَضَنفرَ
اهونُ من ذبابةٍ في مستحَمٍّ قَذِر
فهي تطير حُرّةً جَناحُها لم يُعَر
وذاكَ لو لم يستعِرْ جناحَه لم يطر
فغالِطي وكابري وحَوِّري وزوِّري
أي طرطرا سِيري على نَهجِهِمُ والاثَر
واستَقْبلي يومَك من يومهمُ واستدبِري
وأجمِعي أمرَكِ من أمِرهِمُ تَستَكِثري
كُوني بُغاثاً وأسلَمي بالنفسِ ثم استَنْسِري
انْ طوَّلوُا فطَوِّلي او قصَّروا فقَصِّري
او أجَرمُوا فاعتذري او أنذروا فبشِّري
او خَبَطوا عشوا فقُولي أيُّ نجمٍ نَيِّرِ
او ظَلَموا فابرزي الظُلمْ بأبهَى الصُوَر
شَلَّتْ يَدُ المظلوم لم يَجْن ولم يُعَزِّر
او صَنَعوا ما لم يبرَّرْ منطقٌ فبرِّرِي
أي طرطرا لا تنكري ذَنْباً ولا تَسْتَغفِري
ولا تُغطِّى سوءةً بانت ولا تَتَّزِري
ولا تغُضيِّ الطرفَ عن فَرط الحيا والخَفرَ
كُوني على شاكلةِ من امرهم تُؤَمَّري
كُوني على شاكلةِ الوزيرِ بادي الخَطَر
أيْ طرطرا كُوني على تاريخِك المحتُقَر
احَرصَ من صاحبة النِحيْين ان تذكَّري
طّولي على كِسرى ولا تُعَني بتاج قَيصر
كوني على ما فيك من مساوئٍ ، لم تُحصَرِ
كوني على الاضداد في ِ تكوينك المُبعثرِ
شامخةً شموخَ قَرن الثورَ بين البَقرِ
أيْ طرطرا أُقسم بالسويكةِ المشهَّر
والخَرزِ المعَقود في البطن فوَيق المشعر
بوجهكِ المعتكر وثَغِرك المنوَّرِ
وعينِك الحمراءِ ترمِي حاسداً بالشَررَ
وصنوك الثور يُثار غيظٌه بالأحمر
اقسم بالكافور لا اقصِدُ شَتم العَنْبر
فوقَ جميع البشَرَ فوق القضَا والقَدرَ
أي طْرطرا " يالَك مِن قُبرَّة بمَعَمر
خلا لكِ الجوُّ " وقد طاب " فبيضي واصفِري "
" ونقِّري " من بَعدِهم ما شئت ان تُنَقِّري "
قد غَفَل الصيّادُ في لندنَ عنك فابشِري
هذه كانت تغريدة هامة لقضية تطفو علي المشهد العربي نظمها الجواهري برؤية معاصرة ساخرة ناقدة للواقع العربي السياسي المخزي بمنوال الموقف الذي جسدت صورته من قبل لشاعر العباسي ابن المغربي فكانت حلقة متصلة بين الأصالة و المعاصرة دائما
مع الوعد بلقاء متجدد لتغريدة الشعر العربي ان شاء الله

إرسال تعليق