GuidePedia

0
- عَـفـتِ الـدّيـارُ مَـحـلّـها فـمقامها
بـمنـىً تـأبّـد غـولـهُا فـرجامُها .
-فـمدافـعُ الـريـانِ عـرّي رسمُهـا
خَلقاً كما ضمن الوحي سلامها .
-دمـنٌ تـجـرّم بـعـد عـهـد أنـيسها
حـجَـجٌ خلونَ حلالها وحرامها .
...... إي وربي لَلْمَاء هو الحياة , فإذا ما بخلت السماء ، أجدبت الأرض ، وانعدمت الحياة ، وبسط الموت سلطانه على المكان ، فالديار خالية لم يعد يسكنها إلا الوحشة والرهبة والخوف ، فهي خلاف الأنيس وحوشا يبابا , لم يعد يبقى من رسم الديار إلا مثلما يبقى من الكتابة على الأحجار , إنّها صورة قاتمة تعمق الصمت والخوف ، وتشير إلى البصمات التي تركها الزمان على المكان , إن علم الحفريات العربيّ ليؤكد خلوها من ساكنيها منذ سنوات طوال ، في حلّ وترحال , تلك الصورة القاتمة التي رسمها الشاعر للمكان والتي تبعث في النفس الرهبة والخوف بدأت تتلاشى شيئا فشيئا ، قليلا قليلا عندما تقرأ قوله :
- رزقـت مـرابيعَ النجـوِمِ وصابَها
ودقُ الرواعد جودُها فرهامُها .
-مـن كـل سـاريـة وغــاد مـدجـنٍ
وعـشـيةِ مـتـجـاوبٍ إرزامـُهـا .
- فـعـلا فـروع الأيهـقـان وأطفلت
بالجهـلتـيـن ظـبـاؤها ونـعـاُمُها .
- والـعينُ سـاكـنةٌ عـلى أطـلائِـهـا
عُـوذا تـأجّـل بالـفضـاء بـهـامُها .
- وجلا السيولُ على الطلول كأنها
زبٌـر تـجـدّ مـتـونَـهـا أقـلامُـهـا .
- أو رجعُ واشـمةٍ أسـفَّ نـؤوُرهـا
كـفـفـا تـعرض فـوقـهن وشامها .
-فـوقـفـت أسـألها وكـيـف سـؤالنا
صمّـا خـوالـدَ مـا يُـبـيـنُ كلامُها .
.... لاح في الأفق السحاب ، وبدأ الأمل يدبّ في النفوس ، وأخذ الخوف يتبدل أمنا ، والظلام نورا ، والموت حياة ، فالسحاب يغدو ويروح إيذانا بهطول المطر ..
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها
فرجت وكنت أظنها لا تفرج .
أجل .. لقد عمّ الخير ، وأخذت الأرض زخرفها وازينت ، وأنبتت من كلّ زوج بهيج , لقد ملأت الأودية الظباءُ بولدها ، والنعامُ بفراخها ، وغدا الصغير يرتع ويلعب - في قطيع - مع أقرانه ، والكبير مطمئن على صغاره.
وحين أزالت السيول التراب ، ظهرت طلول الديار وكأنها كتب تراثيه ترك الزمان عليها بصماته ، فبعضها واضح ومعظمه محته الأيام . تلك صورة رائعة رسمها الشاعر للديار تعانق فيها الخيال ، فما أجمل التشبيه ! وما أروع التشخيص ! ثم يعمد الشاعر إلى أن يزيد الصورة وضوحا ، فهي وشم أعيد رسمه بعدما تاهت معالمه ،فمع المطر الخير وهاهو قد ظهرت آثاره على النساء ، فأعاد إليهن شبابهن ، وبدا للرآئي جمالهن .
... وأخيرا , يقف الشاعر سائلا الديار عن أهلها ، أين ذهبوا ؟ ولكن سرعان ما يؤوب إلى رشده ، ويعود إلى صوابه ، فيجد نفسه واقفا أمام صخور صماء ، كيف يسألها ؟ وأنّى لها أن تجيبه !؟
.... لقد رسم الشاعر بالكلمة المألوفة في عصره صورة للطبيعة ربما تعزّ على أمهر الرسامين.
....إنّ الأبيات لتنبئ عن نمط الحياة التي عاشها العربي على تلك الديار، والتي تجبره طوعا أو كرها على الصبر وتحمل المشاق ،ثم تأتي عاقبة الصبر ، وهي - ولاشك - حميدة ، فتجود السماء ، ويعم الخير ،وتعزف الطبيعة أنشودة الحياة ،فيرددها الإنسان والحيوان والجماد ، فمع العسر يسرٌ، ومع الضيق فرجٌ ، ولله في خلقه شؤون .

إرسال تعليق

 
Top