كَانَ مَحْمُـود شَاكِـر فِي السَّابِعَةِ وَالعِشْرِينَ مِـنْ عُمُرِهِ يَوْمَ أَخْرَجَ كِتَابَهُ عَنْ
أَبِي الطَّيِّبِ المُتَنَبِّي؛وَلَمْ يَلْتَفِت النَّاسُ إِلَى هَذا الأَمْرِ لِمُجَرَّدِ أَنَّ صَاحِبَهُ هُـوَ شَابٌّ لَـم يَبْلُغِ الثلاَثِينَ؛بـَل كَانَتْ قُـوَّةُ الكِتَابِ فِي نَفْسِهِ بِحَيْثُ رَأَى النَّاسُ مَنْهَجَاً فِي النَّقْـدِ مَا عَهِدُوهُ مِنْ قَبْلُ فِي الدِّرَاسَاتِ الأَدَبِيَّةِ؛فَلَمَّا نَظَرُوا إِلَى المُؤلِّفِ؛فَإِذا هُـوَ مَحْمُود شَاكِر؛ذلِكَ الشَّابُّ الَّذِي مَا جَاوَزَ نِصْفَ العِقْدِ الثالِثِ مِنْ حَيَاتِهِ إِلاَّ بِأَشْهُرٍ؛فَكَانَ هَذا هُـوَ مَوْضِعُ الإِعْجَازِ فِي هَذا الأَمْرِ؛وَسِـرُّ قُـوَّةِ هَذا الكِتَابِ أَنَّ صَاحِبَهُ طَبَّقَ فِيهِ مَنْهَجَ أَهْلِ الحَدِيثِ الشَّرِيفِ فِي تَحْلِيلِ أَسَانِيدِ المُتُونِ مِنْ أَجْلِ الوُقُوفِ عَلَى صَحِيحِهَا مِنْ فَاسِدِهَا؛فَأَدَّى بِهِ ذلِكَ المَنْهَجُ الَّذِي لَـمْ يَكُنْ مُتَّبَعَاً فِي الدِّرَاسَاتِ الأَدَبِيَّةِ إِلَى اسْتِخْرَاجِ نَتَائِجٍ يُعَدُّ أَوَّلَ مَنْ قَيَّدَهَا بِصَدَدِ أَبِي الطَّيِّبِ المُتَنَبِّي وَحَيَاتِهِ وَسِيرَتِهِ؛بِحَيْثُ أَنَّ بَعْضَ فُحُولِ عَصْرِهِ مِنْ طَبَقَةِ الشُّيُوخِ لَمَّا صَنَّفُوا عَنْ أَبِي الطَّيِّبِ أُتِّهِمُوا بِالسَّطْوِ عَلَى نِتَائِجِ أَبْحَاثِ شَاكِر .
وَلَمَّا صَـدَرَ هَـذا الكِتَابُ المَاتِعُ فِي عَـدَدٍ خَاصٍّ مِنْ مَجَلَّةِ المُقْتَطَفِ احْتَفَى بِهِ
الأُدَبَاءُ فِي مِصْرَ وَفِي غَيْرِهَا؛وَقَـد كَانَت مَقَالَةُ الأَدِيبِ الكَبِيرِ الأُسْتَاذ مُصْطَفَى صَادِق الرَّافِعِيِّ بِمَثابَةِ التَّقْرِيظِ الأَبْهَى لِهَذا العَمَلِ الفَرِيدِ؛وَمَقَالَةُ الأُسْتَاذ الرَّافِعِيِّ مَوْجُودَةٌ بِنَصِّهَا فِي رَائِعَتِهِ (( وَحْيُ الـقَـلَـمِ )) وَهِىَ المُدَبَّجَةُ تَحْتَ عُنْوَانِ (( المُقْتَطْف ... وَالمُتَنَبِّي ))؛وَمِمَّا جَاءَ فِي هَذا المَقَالِ:
(( قَـد بَدَأَ المُقْتَطَفُ مُجَلَّدَهُ الثامِنَ وَالثمَانِينَ بِعَدَدٍ ضَخْمٍ أَفْرَدَهُ لِلْمُتَنَبِّي (1)
وَلَئِنْ كَانَتْ الأَنـْدِيَةُ وَالمَجَلاَّتُ قَـد احْتَفَلَتْ بِهَذا الشَّاعِرِ العَظِيمِ؛فَمَا أَحْسَبُ إِلاَّ أَنَّ رُوحَ الشَّاعِرِ العَظِيمِ قَـد احْتَفَلَتْ بِهَذا العَدَدِ مِنَ المُقْتَطَفِ؛ وَلَسْتُ أَغْلُو إِذا قُلْتُ:إِنَّ هَذِهِ الرُّوحُ المُتَكَبِّرَةُ قَـد أَظْهَرَت كِبْرِيَاءَهَا مَرَّةً أُخْرَى؛فَاعْتَزَلَت المَشْهُورِينَ مِنَ الكُتَّابِ وَالأُدَبَاءِ؛وَلَزِمَتْ صَدِيقَنَا المُتَوَاضِعَ الأُسْتَاذ مَحْمُود شَاكِر مُدَّةَ كِتَابَتِهِ هَذا البَحْثَ النَّفِيسَ الَّذِي أَخْرَجَهُ المُقْتَطَفُ فِي زُهَاءِ سِتِّينَ وَمِائـَةِ صَفْحَةٍ؛تُدُلُّهُ فِي تَفْكِيرِهِ؛وَتُوحِي إِلَيْهِ فِي اسْتِنْبَاطِهِ؛وَتُنَبِّهُهُ فِي شُعُورِهِ؛وَتُبَصِّرُهُ فِي أَشْيَاءَ كَانَتْ خَافِيَةً وَكَانَ الصِّدْقُ فِيهَا؛لِيَرُدَّ بِهَا عَلَى أَشْيَاءَ كَانَت مَعْرُوفَةً وَكَانَ فِيهَا الكَذِبُ؛ثـُمَّ تُعِينُهُ بِكُلِّ ذلِكَ عَلَى أَنْ يَكْتُبَ الحَيَاةَ الَّتِي جَاءَت مِنْ تِلْكَ النَّفْسِ ذاتِهَا؛لاَ الحَيَاةَ الَّتِي جَاءَت مِنْ نُفُوسِ أَعْدَائِهَا وَحُسَّادِهَا؛وَلَقَد كَانَ أَوَّلُ مَا خَطَرَ لِي بَعْدَ أَنْ مَضَيْتُ فِي قِرَاءَةِ هَذا العَدَدِ أَنَّ المُؤلِّفَ جَاءَ بِمَا يَصِحُّ القَوْلُ فِيهِ:أَنَّهُ كَتَبَ تَارِيخَ المُتَنَبِّي وَلَـمْ ينْقِلْهُ؛ثـُمَّ لَـمْ أَكَد أُمْعِنُ فِي القِرَاءَةِ حَتَّى خُيِّلَ إِلَىَّ أَنَّهُ قَـد وَضَعَ لِشِعْرِ المُتَنَبِّي بَعْدَ تَفْسِيرِ الشُّرَّاحِ المُتَقَدِّمِينَ وَالمُتَأَخِّرِينَ تَفْسِيرَاً جَدِيدَاً مِنَ المُتَنَبِّي نَفْسِهِ؛وَمَا الكَلِمَةُ الجَدِيدَةُ فِي تَارِيخِ هَذا الشَّاعِرِ الغَامِضِ إِلاَّ الكَلِمَةُ الَّتِي نَشَرَتْهَا المُقْتَطَفُ اليَوْمَ .
إِنَّ هَـذا المُتَنَـبِّي لاَ يَفْـرُغُ وَلاَ يَنْتَهِي؛فَـإِنَّ الإِعْجَابَ بِشِـعْـرِهِ لاَ يَنْتَهِي وَلاَ
يَفْرُغُ؛وَقَـد كَانَ نَفْسَاً عَظِيمَةً خَلَقَهَا اللهُ كَمَا أَرَادَ؛وَخَلَقَ لَهَا مَادَّتَهَا العَظِيمَةَ عَلَى غَيْرِ مَا أَرَادَت؛فَكَأَنَّمَا جَعَلَهَا بِذلِكَ زَمَنَاً يَمْتَدُّ فِي الزَّمَنِ؛وَكَانَ الرَّجُلُ مَطْوِيَّاً عَلَى سِرٍّ أَلْقَى الغُمُوضَ فِيهِ مِنْ أَوَّلِ تَارِيخِهِ؛وَهُـوَ سِرُّ نَفْسِهِ؛وَسِرُّ شِعْرِهِ؛وَسِرُّ قُوَّتِهِ؛وَبِهَذا السِّرِّ كَانَ المُتَنَبِّي كَالمَلِكِ المَغْصُوبِ الَّذِي يَرَى التَّاجَ وَالسَّيْفَ يَنْتَظِرَانِ رَأْسَهُ جَمِيعَاً؛فَهُوَ يَتَّقِي السَّيْفَ بِالحَذرِ وَالتَّلَفُّفِ وَالغُمُوضِ وَيَطْلُبُ التَّاجَ بِالكِتْمَانِ وَالحِيلَةِ وَالأَمَلِ؛وَمِنْ هَذا السِّرِّ بَدَأَ كَاتِبُ المُقْتَطَفِ؛ فَجَاءَ بَحْثـُهُ يَتَحَدَّرُ فِي نَسَقٍ عَجِيبٍ؛مُتَسَلْسِلاً بِالتَّارِيخِ كَأَنَّهُ وِلاَدَةٌ وَنُمُوٌّ وَشَبَابٌ؛وَعَرَضَ بَيْنَ ذلِكَ شِعْرَ أَبِي الطَّيِّبِ عَرْضَاً خَيَّلَ إِلَىَّ أَنَّ هَذا الشِّعْرَ قَـد قِيلَ مَرَّةً أُخْرَى مِنْ فَمِ شَاعِرِهِ عَلَى حَوَادِثِ نَفْسِهِ وَأَحْوَالِهَا؛وَبِذلِكَ انْكَشَفَ السِّرُّ الَّذِي كَانَ مَادَّةَ التَّهْوِيلِ فِي ذلِكَ الشِّعْرِ الفَخْمِ؛إِذ كَانَت فِي وَاعِيَةِ الرَّجُلِ دَوْلَةٌ أَضْخَمُ دَوْلَةٍ؛عَجَزَ عَنْ خَلْقِهَا وَإِيجَادِهَا فَخَلَقَهَا شِعْرَاً أَضْخَمَ شِعْرٍ؛ وَجَاءَت مُبَالَغَاتُهُ كَأَنَّهَا أَكَاذِيبُ آمَالِهِ البَعِيدَةِ مُتَحَقِّقَةً فِي صُورَةٍ مِنْ صُوَرِ الإِمْكَانِ اللُّغَوِيِّ؛وَمِنْ أَعْجَبِ مَا كَشَفَهُ مِنْ أَسْرَارِ المُتَنَبِّي:سِرُّ حُبِّهِ؛فَقَالَ أَنَّهُ كَانَ يُحِبُّ خَوْلَةَ أُخْتَ الأَمِيرِ سَيْفِ الدَّوْلَةِ؛وَكَتَبَ فِي ذلِكَ خَمْسَ عَشْرَةَ صَفْحَةٍ كَبِيرَةٍ؛وَكَأَنَّهَا لَـمْ تُرْضِهِ؛فَقَالَ أَنَّهُ كَانَ يُؤمِّلُ أَنْ يَكْتُبَ هَذا الفَصْلَ فِي خَمْسِينَ وَجْهَاً مِنَ المُقْتَطَفِ؛وَهَذا البَابُ مِنْ غَرَائِبِ هَذا البَحْثِ؛فَلَيْسَ مِنْ أَحَدٍ فِي الدُّنْيَا المَكْتُوبَةِ ـ أَي التَّارِيخِ ـ يَعْلَمُ هَذا السِّرَّ أَوْ يَظُنُّهُ؛وَالأَدِلَّةُ الَّتِي جَاءَ بِهَا المُؤلِّفُ تَقِفُ البَاحِثَ المُدَقِّقَ بَيْنَ الإِثبَاتِ وَالنَّفْيِ؛وَمَتَى لَـمْ يَسْتَطِعِ المَرْءُ نَفْيَاً وَلاَ إِثبَاتَاً فِي خَبَرٍ جَدِيدٍ يَكْشِفُهُ البَاحِثُ وَلَـمْ يَهْتَدِ إِلَيْهِ غَيْرُهُ؛فَهَذا حَسْبُكَ إِعْجَابَاً يُذكَرُ؛وَهَذا حَسْبُهُ فَوْزَاً يُعَدُّ؛وَلَعَمْرِي لَوْ كُنْتُ أَنَا فِي مَكَانِ المُتَنَبِّي مِنْ سَيْفِ الدَّوْلَةِ لَقُلْتُ إِنَّ المُؤلِّفَ قَـد صَدَقَ؛فَهُنَاكَ مَوْضِعٌ لاَ بـُدَّ أَنْ يَبْحَثَ فِي القَلْبِ الشَّاعِرِ الَّذِي وَضَعَتْ لَهُ الدُّنْيَا حِكْمَتَهَا؛وَطَوَتْ فِيهِ القُوَّةُ سِرَّهَا؛وَبَثَّ فِيهِ الجَمَالُ وَحْيَهُ؛وَأَصْغَرُ هَذِهِ الثلاَثِ أَكْبَرُ مِنَ المُلُوكِ وَالمَمَالِكِ؛ وَلَكِنَّ الحَبِيبَةَ أَكْبَرُ مِنْهَا كُلِّهَا )) أهـ (1) .
وَبِهَذِهِ الكَلِمَةِ الَّتِي كَـتَبَهَا الأَدِيـبُ الكَبِيرُ الأُسْتَاذ مُصْطَفَى صَـادِقُ الرَّافِعِيُّ
فِي حَقِّ كِتَابِ (( المُتَنَبِّي )) لِشَاكِر يَكُونُ المُتَأَمِّلُ قَـد وَقَفَ عَلَى عَبْقَرِيَّةِ أَدِيبٍ شَابٍّ مَا كَادَ يَنْشُرُ شَيْئـاً عَلَى النَّاسِ حَتَّى أَدْهَشَهُم وَأَعْجَزَهُم؛فَلَوْ قُلْتُ أَنَّ كِتَابَهُ جَاءَ كَالمُعْجِزَةِ الأَدَبِيَّةِ فِي أَيَّامِهِ لَمَا كُنْتُ مُغَالِيَاً أَوْ مُجَانِبَاً لِسَبِيلِ الاعْتِدَالِ؛بَلْ هَـذِهِ هِىَ كَلِمَةُ الحَقِّ فِي أَمْـرِ هَـذِهِ الـدُّرَّةِ الفَرِيدَةِ الَّتِي بِهَا شَابٌّ
فِي السَّابِعَةِ وَالعِشْـرِينَ؛وَلَـمْ يَكُـن خِـرِّيجَ جَامِعَةٍ أُورُوبِيَّةٍ وَلاَ مِصْرِيَّةٍ؛فَأَثبَتَ
مِنْ خِلاَلِهِ أَنَّهُ أَقْوَى مِنْ كَثِيرِينَ مِنْ أَسَاتِذةِ الجَامِعَةِ المِصْرِيَّةِ فِي ذلِكَ العَهْدِ .
أَبِي الطَّيِّبِ المُتَنَبِّي؛وَلَمْ يَلْتَفِت النَّاسُ إِلَى هَذا الأَمْرِ لِمُجَرَّدِ أَنَّ صَاحِبَهُ هُـوَ شَابٌّ لَـم يَبْلُغِ الثلاَثِينَ؛بـَل كَانَتْ قُـوَّةُ الكِتَابِ فِي نَفْسِهِ بِحَيْثُ رَأَى النَّاسُ مَنْهَجَاً فِي النَّقْـدِ مَا عَهِدُوهُ مِنْ قَبْلُ فِي الدِّرَاسَاتِ الأَدَبِيَّةِ؛فَلَمَّا نَظَرُوا إِلَى المُؤلِّفِ؛فَإِذا هُـوَ مَحْمُود شَاكِر؛ذلِكَ الشَّابُّ الَّذِي مَا جَاوَزَ نِصْفَ العِقْدِ الثالِثِ مِنْ حَيَاتِهِ إِلاَّ بِأَشْهُرٍ؛فَكَانَ هَذا هُـوَ مَوْضِعُ الإِعْجَازِ فِي هَذا الأَمْرِ؛وَسِـرُّ قُـوَّةِ هَذا الكِتَابِ أَنَّ صَاحِبَهُ طَبَّقَ فِيهِ مَنْهَجَ أَهْلِ الحَدِيثِ الشَّرِيفِ فِي تَحْلِيلِ أَسَانِيدِ المُتُونِ مِنْ أَجْلِ الوُقُوفِ عَلَى صَحِيحِهَا مِنْ فَاسِدِهَا؛فَأَدَّى بِهِ ذلِكَ المَنْهَجُ الَّذِي لَـمْ يَكُنْ مُتَّبَعَاً فِي الدِّرَاسَاتِ الأَدَبِيَّةِ إِلَى اسْتِخْرَاجِ نَتَائِجٍ يُعَدُّ أَوَّلَ مَنْ قَيَّدَهَا بِصَدَدِ أَبِي الطَّيِّبِ المُتَنَبِّي وَحَيَاتِهِ وَسِيرَتِهِ؛بِحَيْثُ أَنَّ بَعْضَ فُحُولِ عَصْرِهِ مِنْ طَبَقَةِ الشُّيُوخِ لَمَّا صَنَّفُوا عَنْ أَبِي الطَّيِّبِ أُتِّهِمُوا بِالسَّطْوِ عَلَى نِتَائِجِ أَبْحَاثِ شَاكِر .
وَلَمَّا صَـدَرَ هَـذا الكِتَابُ المَاتِعُ فِي عَـدَدٍ خَاصٍّ مِنْ مَجَلَّةِ المُقْتَطَفِ احْتَفَى بِهِ
الأُدَبَاءُ فِي مِصْرَ وَفِي غَيْرِهَا؛وَقَـد كَانَت مَقَالَةُ الأَدِيبِ الكَبِيرِ الأُسْتَاذ مُصْطَفَى صَادِق الرَّافِعِيِّ بِمَثابَةِ التَّقْرِيظِ الأَبْهَى لِهَذا العَمَلِ الفَرِيدِ؛وَمَقَالَةُ الأُسْتَاذ الرَّافِعِيِّ مَوْجُودَةٌ بِنَصِّهَا فِي رَائِعَتِهِ (( وَحْيُ الـقَـلَـمِ )) وَهِىَ المُدَبَّجَةُ تَحْتَ عُنْوَانِ (( المُقْتَطْف ... وَالمُتَنَبِّي ))؛وَمِمَّا جَاءَ فِي هَذا المَقَالِ:
(( قَـد بَدَأَ المُقْتَطَفُ مُجَلَّدَهُ الثامِنَ وَالثمَانِينَ بِعَدَدٍ ضَخْمٍ أَفْرَدَهُ لِلْمُتَنَبِّي (1)
وَلَئِنْ كَانَتْ الأَنـْدِيَةُ وَالمَجَلاَّتُ قَـد احْتَفَلَتْ بِهَذا الشَّاعِرِ العَظِيمِ؛فَمَا أَحْسَبُ إِلاَّ أَنَّ رُوحَ الشَّاعِرِ العَظِيمِ قَـد احْتَفَلَتْ بِهَذا العَدَدِ مِنَ المُقْتَطَفِ؛ وَلَسْتُ أَغْلُو إِذا قُلْتُ:إِنَّ هَذِهِ الرُّوحُ المُتَكَبِّرَةُ قَـد أَظْهَرَت كِبْرِيَاءَهَا مَرَّةً أُخْرَى؛فَاعْتَزَلَت المَشْهُورِينَ مِنَ الكُتَّابِ وَالأُدَبَاءِ؛وَلَزِمَتْ صَدِيقَنَا المُتَوَاضِعَ الأُسْتَاذ مَحْمُود شَاكِر مُدَّةَ كِتَابَتِهِ هَذا البَحْثَ النَّفِيسَ الَّذِي أَخْرَجَهُ المُقْتَطَفُ فِي زُهَاءِ سِتِّينَ وَمِائـَةِ صَفْحَةٍ؛تُدُلُّهُ فِي تَفْكِيرِهِ؛وَتُوحِي إِلَيْهِ فِي اسْتِنْبَاطِهِ؛وَتُنَبِّهُهُ فِي شُعُورِهِ؛وَتُبَصِّرُهُ فِي أَشْيَاءَ كَانَتْ خَافِيَةً وَكَانَ الصِّدْقُ فِيهَا؛لِيَرُدَّ بِهَا عَلَى أَشْيَاءَ كَانَت مَعْرُوفَةً وَكَانَ فِيهَا الكَذِبُ؛ثـُمَّ تُعِينُهُ بِكُلِّ ذلِكَ عَلَى أَنْ يَكْتُبَ الحَيَاةَ الَّتِي جَاءَت مِنْ تِلْكَ النَّفْسِ ذاتِهَا؛لاَ الحَيَاةَ الَّتِي جَاءَت مِنْ نُفُوسِ أَعْدَائِهَا وَحُسَّادِهَا؛وَلَقَد كَانَ أَوَّلُ مَا خَطَرَ لِي بَعْدَ أَنْ مَضَيْتُ فِي قِرَاءَةِ هَذا العَدَدِ أَنَّ المُؤلِّفَ جَاءَ بِمَا يَصِحُّ القَوْلُ فِيهِ:أَنَّهُ كَتَبَ تَارِيخَ المُتَنَبِّي وَلَـمْ ينْقِلْهُ؛ثـُمَّ لَـمْ أَكَد أُمْعِنُ فِي القِرَاءَةِ حَتَّى خُيِّلَ إِلَىَّ أَنَّهُ قَـد وَضَعَ لِشِعْرِ المُتَنَبِّي بَعْدَ تَفْسِيرِ الشُّرَّاحِ المُتَقَدِّمِينَ وَالمُتَأَخِّرِينَ تَفْسِيرَاً جَدِيدَاً مِنَ المُتَنَبِّي نَفْسِهِ؛وَمَا الكَلِمَةُ الجَدِيدَةُ فِي تَارِيخِ هَذا الشَّاعِرِ الغَامِضِ إِلاَّ الكَلِمَةُ الَّتِي نَشَرَتْهَا المُقْتَطَفُ اليَوْمَ .
إِنَّ هَـذا المُتَنَـبِّي لاَ يَفْـرُغُ وَلاَ يَنْتَهِي؛فَـإِنَّ الإِعْجَابَ بِشِـعْـرِهِ لاَ يَنْتَهِي وَلاَ
يَفْرُغُ؛وَقَـد كَانَ نَفْسَاً عَظِيمَةً خَلَقَهَا اللهُ كَمَا أَرَادَ؛وَخَلَقَ لَهَا مَادَّتَهَا العَظِيمَةَ عَلَى غَيْرِ مَا أَرَادَت؛فَكَأَنَّمَا جَعَلَهَا بِذلِكَ زَمَنَاً يَمْتَدُّ فِي الزَّمَنِ؛وَكَانَ الرَّجُلُ مَطْوِيَّاً عَلَى سِرٍّ أَلْقَى الغُمُوضَ فِيهِ مِنْ أَوَّلِ تَارِيخِهِ؛وَهُـوَ سِرُّ نَفْسِهِ؛وَسِرُّ شِعْرِهِ؛وَسِرُّ قُوَّتِهِ؛وَبِهَذا السِّرِّ كَانَ المُتَنَبِّي كَالمَلِكِ المَغْصُوبِ الَّذِي يَرَى التَّاجَ وَالسَّيْفَ يَنْتَظِرَانِ رَأْسَهُ جَمِيعَاً؛فَهُوَ يَتَّقِي السَّيْفَ بِالحَذرِ وَالتَّلَفُّفِ وَالغُمُوضِ وَيَطْلُبُ التَّاجَ بِالكِتْمَانِ وَالحِيلَةِ وَالأَمَلِ؛وَمِنْ هَذا السِّرِّ بَدَأَ كَاتِبُ المُقْتَطَفِ؛ فَجَاءَ بَحْثـُهُ يَتَحَدَّرُ فِي نَسَقٍ عَجِيبٍ؛مُتَسَلْسِلاً بِالتَّارِيخِ كَأَنَّهُ وِلاَدَةٌ وَنُمُوٌّ وَشَبَابٌ؛وَعَرَضَ بَيْنَ ذلِكَ شِعْرَ أَبِي الطَّيِّبِ عَرْضَاً خَيَّلَ إِلَىَّ أَنَّ هَذا الشِّعْرَ قَـد قِيلَ مَرَّةً أُخْرَى مِنْ فَمِ شَاعِرِهِ عَلَى حَوَادِثِ نَفْسِهِ وَأَحْوَالِهَا؛وَبِذلِكَ انْكَشَفَ السِّرُّ الَّذِي كَانَ مَادَّةَ التَّهْوِيلِ فِي ذلِكَ الشِّعْرِ الفَخْمِ؛إِذ كَانَت فِي وَاعِيَةِ الرَّجُلِ دَوْلَةٌ أَضْخَمُ دَوْلَةٍ؛عَجَزَ عَنْ خَلْقِهَا وَإِيجَادِهَا فَخَلَقَهَا شِعْرَاً أَضْخَمَ شِعْرٍ؛ وَجَاءَت مُبَالَغَاتُهُ كَأَنَّهَا أَكَاذِيبُ آمَالِهِ البَعِيدَةِ مُتَحَقِّقَةً فِي صُورَةٍ مِنْ صُوَرِ الإِمْكَانِ اللُّغَوِيِّ؛وَمِنْ أَعْجَبِ مَا كَشَفَهُ مِنْ أَسْرَارِ المُتَنَبِّي:سِرُّ حُبِّهِ؛فَقَالَ أَنَّهُ كَانَ يُحِبُّ خَوْلَةَ أُخْتَ الأَمِيرِ سَيْفِ الدَّوْلَةِ؛وَكَتَبَ فِي ذلِكَ خَمْسَ عَشْرَةَ صَفْحَةٍ كَبِيرَةٍ؛وَكَأَنَّهَا لَـمْ تُرْضِهِ؛فَقَالَ أَنَّهُ كَانَ يُؤمِّلُ أَنْ يَكْتُبَ هَذا الفَصْلَ فِي خَمْسِينَ وَجْهَاً مِنَ المُقْتَطَفِ؛وَهَذا البَابُ مِنْ غَرَائِبِ هَذا البَحْثِ؛فَلَيْسَ مِنْ أَحَدٍ فِي الدُّنْيَا المَكْتُوبَةِ ـ أَي التَّارِيخِ ـ يَعْلَمُ هَذا السِّرَّ أَوْ يَظُنُّهُ؛وَالأَدِلَّةُ الَّتِي جَاءَ بِهَا المُؤلِّفُ تَقِفُ البَاحِثَ المُدَقِّقَ بَيْنَ الإِثبَاتِ وَالنَّفْيِ؛وَمَتَى لَـمْ يَسْتَطِعِ المَرْءُ نَفْيَاً وَلاَ إِثبَاتَاً فِي خَبَرٍ جَدِيدٍ يَكْشِفُهُ البَاحِثُ وَلَـمْ يَهْتَدِ إِلَيْهِ غَيْرُهُ؛فَهَذا حَسْبُكَ إِعْجَابَاً يُذكَرُ؛وَهَذا حَسْبُهُ فَوْزَاً يُعَدُّ؛وَلَعَمْرِي لَوْ كُنْتُ أَنَا فِي مَكَانِ المُتَنَبِّي مِنْ سَيْفِ الدَّوْلَةِ لَقُلْتُ إِنَّ المُؤلِّفَ قَـد صَدَقَ؛فَهُنَاكَ مَوْضِعٌ لاَ بـُدَّ أَنْ يَبْحَثَ فِي القَلْبِ الشَّاعِرِ الَّذِي وَضَعَتْ لَهُ الدُّنْيَا حِكْمَتَهَا؛وَطَوَتْ فِيهِ القُوَّةُ سِرَّهَا؛وَبَثَّ فِيهِ الجَمَالُ وَحْيَهُ؛وَأَصْغَرُ هَذِهِ الثلاَثِ أَكْبَرُ مِنَ المُلُوكِ وَالمَمَالِكِ؛ وَلَكِنَّ الحَبِيبَةَ أَكْبَرُ مِنْهَا كُلِّهَا )) أهـ (1) .
وَبِهَذِهِ الكَلِمَةِ الَّتِي كَـتَبَهَا الأَدِيـبُ الكَبِيرُ الأُسْتَاذ مُصْطَفَى صَـادِقُ الرَّافِعِيُّ
فِي حَقِّ كِتَابِ (( المُتَنَبِّي )) لِشَاكِر يَكُونُ المُتَأَمِّلُ قَـد وَقَفَ عَلَى عَبْقَرِيَّةِ أَدِيبٍ شَابٍّ مَا كَادَ يَنْشُرُ شَيْئـاً عَلَى النَّاسِ حَتَّى أَدْهَشَهُم وَأَعْجَزَهُم؛فَلَوْ قُلْتُ أَنَّ كِتَابَهُ جَاءَ كَالمُعْجِزَةِ الأَدَبِيَّةِ فِي أَيَّامِهِ لَمَا كُنْتُ مُغَالِيَاً أَوْ مُجَانِبَاً لِسَبِيلِ الاعْتِدَالِ؛بَلْ هَـذِهِ هِىَ كَلِمَةُ الحَقِّ فِي أَمْـرِ هَـذِهِ الـدُّرَّةِ الفَرِيدَةِ الَّتِي بِهَا شَابٌّ
فِي السَّابِعَةِ وَالعِشْـرِينَ؛وَلَـمْ يَكُـن خِـرِّيجَ جَامِعَةٍ أُورُوبِيَّةٍ وَلاَ مِصْرِيَّةٍ؛فَأَثبَتَ
مِنْ خِلاَلِهِ أَنَّهُ أَقْوَى مِنْ كَثِيرِينَ مِنْ أَسَاتِذةِ الجَامِعَةِ المِصْرِيَّةِ فِي ذلِكَ العَهْدِ .
إرسال تعليق