صراع الثقافات......الحلقة الثالثة.. من [ ذكريات باسمة ]
الكوسة ليس لها وطن
بقلم : رجاء حسين
----------------
مرت الأيام الأولى في الصف مثلما تمر الأيام الأولى في حياة أي شخص ترك وطنه ومسقط رأسه..واضطرته الظروف للمغادرة الى مكان أخر لا يعرف فيه أحدا ولا يعرفه أحد.وبدأ صراع نفسي يجتاح طفلة التاسعة بداخلي..كانت المؤشرات تدل على أني أتأرجح على حافة هاوية..أكون أو لا أكون....شعرت أن أغلبية التلاميذ أخذوا مني موقفا سلبيا منذ اليوم الأول..أو هكذا تخيلت الأمر في تلك الساعات المشحونة بالتوتر.
كان لابد من إيجاد أساس قوي أستطيع به ومن خلال الاستناد عليه إذابة الجليد قليلا بيني وبين بقية التلاميذ؛ فلا يمكن أن يستمر الأمر على ما هو عليه والا فلن أكون في مدرسة, بل سيكون الأمر وكأني في الجحيم.
نقطة الضوء الوحيدة في ذلك الظلام الدامس حتى الأن ..موقف المعلمة ..من تلك النقطة كان انطلاقي لتسوية كل الأمور العالقة بيني وبين غالبية التلاميذ.
كانت معلمة الصف في الأربعين تقريبا..وكان جسدها يبدو لي ضخما وكنت أرجع كبر قلبها الحنون الى مسألة النسبية ولكن الأيام أثبتت لي فيما بعد أ ن نظرية النسبية ليس لها علاقة بتلك الأمور إطلاقا .
كان وجهها البشوش دائما هو الأداة السحرية التي أزالت أي خوف من داخلي ومنحني القوة لمواجهة أية مشكلة قد أقع فيها في ذلك الوقت.
بدأت علاقتي تتوطد بها يوما بعد يوم بمجرد أن تنتهي من الشرح، وتجلس لتصويب الواجبات كنت أظل واقفة بجوارها ، أضحك معها وأبادلها الحديث وكأننا صديقتان منذ زمن طويل..
كانت تشفق علي من طول الوقوف ، وتطلب مني أن أعود الى مكاني لأستريح كنت أرفض وأظل واقفة بجوارها ، وعندما ينال مني التعب كنت أسند قدمي على الخشبة أسفل المنضدة وأتشبث جيدا بحافة المنضدة حتى لا أقع كان الحديث لا ينتهي إلا بنهاية الحصة وأخرج معها لأودعها وأحمل عنها بعض الأشياء.
كانت معلمتي الحبيبة خفيفة الظل وطيبة القلب الى أقصى درجة استطاعت احتوائي وإزالة الرهبة من نفسي تماما..
قويت علاقتي بها يوما بعد يوم ، وأعتقد أن ماساعدني على ذلك هو عشقي للغة العربية منذ صغري فكنت أجيب أحيانا عن أسئلة قد يعجز الأغلبية عن إجابتها بالطريقة السليمة.
عندما كنت أجيب إجابة مميزة كانت تقوم بتشجيعي والثناء علي.
بقدر ماكان هذا الأمر يسعدني ويزيدني ثقة بنفسي يوما بعد يوم إلا أنه كان سببا رئيسيا في زيادة نفور بعض البنات مني، وخاصة تلك المجموعة المتميزة والتي علمت مع الوقت أن تميزهن يعود في المقام الأول إلى كونهن بنات معلمات في المدرسة.
نعم..اكتشفت بعد أيام أنني في الفصل المميز الذي يتواجد فيه أغلبية من أبناء وبنات المعلمين والمعلمات ومديري مدارس أخرى أيضا. .
كانت تلك المجموعة تميز بالاشتراك في الأنشطة المختلفة والعروض المميزة لحفلات المدرسة .ولما كنت أهوى تلك الأمور فقد استطعت حفظ ماكانت البنات يؤدينه أثناء التدريب بمجرد متابعتهن.وأحببت الاشتراك معهن..
ببراءة طفلة لم تتعثر من قبل في أية مزرعة للكوسة ذهبت إلى المعلمة المسئولة عن التدريب وأخبرتها برغبتي في الاشتراك معها ... ردت علي..بأن تدريبهن قد بدأ منذ فترة وأنني لن أستطيع مجاراتهن وأحتاج وقتا لحفظ النشيد وأداء الحركات بشكل سليم......أخبرتها أنني أحفظ تماما ماتفعله الفتيات..نظرت إلي وهي غير مصدقة وقالت لي ..أريني ..
فوجئت بي وأنا أردد الأنشودة بشكل صحيح وقوي وحركات اداء سليمة..ويبدو أنه أسقط في يدها فاضطرت لقبولي بالفريق في بداية الأمر، وبدأت التدريب فعليا.
كانت نظرات البنات تقدح بالشرر فلم يكن ينقصهن أن أذيب الفاصل الذي يتميزن به علي وعلى بقية التلاميذ بالصف..
نظراتهن المتبادلة كانت تشي بشيء غير مريح.
في موعد التدريب التالي طلبت مني معلمة التدريب الانتظار مع الفريق الاحتياطي مؤقتا.
باختصار وان كنت لم أدرِ بالظبط ماذا حدث وراء الكواليس
لكن ماحدث على خشبة مسرح الأحداث كان يقول ببساطة إن مسألة الاشتراك في ذلك العرض قد حسمت لصالحهن.
فوجئت بالمعلمة تخبرني أن الفريق مكتمل، ولن تستطيع إشراكي معها...لم أكن بحاجة لأي شرح فالموقف كان يفسر نفسه، وزاد الموقف وضوحًا وألمًا في الوقت نفسه عندما أخبرتني زعيمة البنات بشكل متعالٍ ...انني كيف أفكر في الاشتراك معهن في الفريق وأمي ليست معلمة بالمدرسة؟!!!.
طفلة في ذلك العمر المبكر لخصت الموقف المرير في كلمتين وجهتهما إلى طفلة أخرى في العمر نفسه هي أنا .
كانت تتحدث وكأنها ابنة محرر العبيد أو ابنة الملكة اليزابيث.
كانت ملامحها قاسية وهي تحدثني..لا أدري من أين يأتي الأطفال الصغار بكل تلك القسوة وهل تكون طبيعة متأصلة في شخصيتهم ، أو انها جينات وراثية أو أنها مزيج من الاثنين
ذلك الموقف برمته لقنني الدرس الثاني:..
الكوسة ليس لها وطن..الكوسة نبت عشوائي يزهر في أي تربة تتوارى فيها الضمائر الحية.
كان لابد من الاستناد إلى أساسٍ قوي؛ حتى أستمتع بحقوقي كتلميذة من الدرجة الأولى يحق لها ممارسة كل الأنشطة التي تحبها بدون تفرقة عنصرية أو تمييز على أساس عائلي..وإلا سأظل تلميذة من الدرجة الثانية ، مهما كانت مؤهلاتي وقدراتي
لا أخفيكم سرًا...في الحقيقة أكره أن أعامل كتلميذة من الدرجة الثانية. 😁 😁
كان الامر ببساطة يتلخص في أنني يجب أن أكون أنا ..لن يهمني منهم شيئا..وإذا كانت نقاط تميز البعض لاتعود بالضرورة إلى تميزه بشكل خاص ومباشر فلتكن نقطة تميزي نابعة مني أنا وساعتها لن يستطيع أي شخص أن يسلبني إياها..
الأن..حان وقت اللعب...ولنر من الفائز....الفائز يضحك في النهاية.
إلى اللقاء في الحلقة القادمة إن شاء الله
إرسال تعليق