GuidePedia

0
تعودت أن أراها فى طريقى يوميا على الجسر .. كانت أنيقة المظهر .. ممشوقة القوام ..خمرية اللون ..واسعة العينين .. يسترسل شعرها الأسود اللامع على كتفيها فى حنو .. ويتطاير كأسير قد فكت للتو قيوده فيخفى جزءاً من وجهها .. فتعيده فى دلال إلى الخلف .. وكان يبدو عليها النشاط والحيوية فهى سريعة الخطى فى رشاقة وخفة راقصات البالية .. او كالفراشات الجميلة .. كان يشدنى إليها شئ ما .. لكننى لم أحاول قط أن أقترب منها .. كان كل ما يهمنى أن أراها فقط .. لماذا ؟ لست أدرى .. إلى أن جاء يوم .. ياله من يوم .. يوم يعادل العمر بأكمله .. رأيتها وكانت تحمل عددا من الأكياس .. وفجأة قُطعت يد إحداها .. وتبعثرت منه بعض حبات البرتقال .. فأسرعت بدون أن أدرى وهممت بمعاونتها .. وجلست القرفصاء لأجمع حبات البرتقال .. وقد أنحنت هى ناحيتى وهى تمسك بالكيس لأضع به البرتقال .. وبمجرد أن أمسكت بآخر برتقالة كانت على الأرض فإذا بى أرى أمامى أجمل ساقين ملفوفتين بلون العاج ، وقد التصق بهما جورب شفاف لامع زادهما فتنة وجمالا .. وشردت بفكرى لحظة .. ثم أفقت سريعا ورفعت رأسى إلى وجهها .. ياله من وجه جميل مشرق تكسوه حمرة الخجل .. وتعلو شفتيها ابتسامة رائعة .. والتقت أعيننا عن قرب لأول مرة .. كانت عيناها عسليتين ساحرتين وحولهما صفوف من الحراس تكاد ترشق خناجرها فى قلبى الضعيف ، وكانت تتعطر بعطر البنفسج الرقيق .. وأحسست بأن أنفاسها تتعانق مع أنفاسى فى شوق جارف .. وكأن بيننا حبا متغلغلا فى الأعماق .. لم أستشعر قوته وعنفوانه حتى تلك اللحظة .. ولم أفق مما انا فيه حتى بعد أن جمعت حوائجها وانطلقت .. ولملمت أنا مشاعرى وأحاسيسى ومشيت وكأننى أعيش حلما رائعا أتمنى ألا أفيق منه أبداً .. إلى أن وجدت سيارة توقفت فجأة بجوارى محدثة صوتا رهيبا باحتكاكها مع الأرض تتدلى من نافذتها رأس السائق موجها إلىّ وابلا من الشتائم لا أذكر منه سوى " بطلّوا الهباب اللى بتتعاطوه ده " ولم أنم ليلتى .. حتى الصباح إذ رأيتها ، وألتقت أعيننا للمّرة الثانية .. وابتسمت .. وتناثرت دقات قلبى وارتجفــت أطرافى .. ثم سخنت وكأنه يسرى بأوردتى ماء ساخن .. ولم ننطق بكلمة .. فقد تلعثمت الألسن .. وضاعت الحروف .. وبعد توقفنا لحظة .. انصرف كل منا إلى غايته .. وبداخله قصيدة شعر يود أن يترنم بها للآخر .. وحديث طويل يود كلانا أن يبث للآخر ويستمع إليه حتى آخر العمر ..
تعمدت أسير على نفس الجسر .. وفى نفس الموعد لأراها .. مرت أيام وأسابيع .. ثقيلة على نفس كأنها الدهر لأننى لم أرها .. لم أرَ من سلبت عقلى وقلبى وروحى ونومى .. وكأننى أعرفها منذ بدء الخليقة .. ولم يتملكنى اليأس .. لكننى كنت قلقا عليها .. وظلت تراودنى الهواجس .. ربما تكون مريضة .. ربما تكون قد تزوجت .. لا لا .. إنها بخير .. قلبى يحدثنى بذلك .. ثم لم تكن تلبس خاتم الخطبة .. وبعد شهر بأكمله .. وبعد ان استبد بى القلق والاحباط .. ظهرت الشمس وأخترقت الضباب الذى لفنى .. وأضاءت جوانحى .. وبلهفة رضيع جائع لصدر أمه ... وجدتنى أمسك بذراعها وأسير بها إلى أحد جوانب الجسر وأوقفها.. ولا أدرى من أين جائتنى تلك الشجاعة .. ربما من خوفى أن تضيع منى ثانية .. وكان على وجهها الكثير من علامات التعجب والاستفهام .. فكيف أجرؤ على هذا التصرف دون مراعاة لوجود أناس كثيرين على الجسر .. ولكن دون أن أتـرك لها فرصة للشجار أو العتاب أو حتى النطق بكلمة واحدة .. سألتها : " أتتزوجيننى ؟ ؟ والتقت أعيننا هذه المرة .. ولكنها أفصحت بالكثير .. ثم أومأت برأسها بالموافقة .. وابتسمت فى حياء .. وكأننى قد نبت لى جناحان أطير بهما فى دنيا الحب .. التى أصبحت تغنى وترقص حولى .. وكدت أسمع دقات قلبى تزغرد بداخلى .. ولكن جاء سُؤال آخر ملح طالما أرّقنى وسألته لنفسى فانطلق لسانى على الفور .. أين كنت ؟ لقد كدت أجن .. وبمنتهى الهدوء وبصوت ملائكى ساحر لم أسمعه من قبل أجابت : " كنت أختبر مشاعرى .. ومشاعرك أيضاً وما زالت تلك الكلمات لها رنين بأذنى حتى اليوم .. ولا أحد يكاد يصدق أنه حتى ذلك الموقف لم يكن أحدنا يعرف عن الآخر أى شئ ولا حتى اسمه .. فلم نكن نعبأ بأى شئ سوى الحب .. هذا الرباط السحرى الذى لا يعترف بآية فوارق أو مسميات .. سوى نبضات القلب .. ومررنا على جسـر الحب فى طريق واحـد وإلى الأبد ..

إرسال تعليق

 
Top