GuidePedia

0
اجتياحٌ من هاتفٍ جوَّالٍ
قصة قصيرة:

بقلم: هاني زريفة

كنتُ وحيدةً كمئذنة أثرية، في أوابد تركت للريح والمطر، الليل مطرق كئيب، وعويل الريح يوقظ سبات الأحزان، والسماء تنتحب!
غداً موعد لقائي معه، مراراً حاولت تأجيل اللقاء، كمن تؤجل وأدها، ولكن لكل بداية نهاية، اخترت أجمل الثياب، وأجود العطور... كأميرة تنتظر فارساً يأتيها من جهة مجهولة، أو من حكاية منسية... يسري حب مستعر في عروقي، ولكن سرعان ما يبدده الخوف!... ترى ماذا لو فقدت رجلَ الهاتف الجوَّال، بعد أن أدمنت عليه، واجتاح أنوثتي ووحدتي؟!
الليل قطار يمتد من القطب إلى القطب، والخوف شمس مطبقة لا هروب منها، ولا إفلات، ولا اختباء!
يومها رنَّ الهاتف الجوال، فانتابني خوف شديد! ترى من يتصل بي في مثل هذه الساعة المتأخرة من الليل؟!
منذ وفاة والدي لم يتصل بي أحد، إلاّ لافتعال مشكلة، ولم يزرني أحد، إلاّ وحمل معه مصيبة!... أنا لا أتدخل في أمورهم، ولا أريد منهم شيئاً، فلماذا يصرّون على سلبي حتى إرادة الحياة؟!
عاد الجوال يرن من جديد!... يبدو أن هذه الليلة أيضاً لن تمرّ على خير!... أجبت بصوت مرتجف، وأوصال مرتعدة! كان صوت رجل، قال بأنه حول لي بالخطأ مئتي وحدة، ويأمل أن أعيدها له!... انزاح عن كاهلي جبل... غمرتني السكينة... ونمت!
في الليلة التالية اتصل في نفس الموعد، حيّاني، وسألني عن صحتي وأحوالي، ثمّ شكرني على إعادة الرصيد!
غمرني دفء جميل، مرّ وقت طويل لم يسألني فيه أحد عن أحوالي!... وحين يحاول أحدهم مساعدتي لتحسينها، ولو بأجرة مضاعفة، كانوا يحاصرونه بنظراتهم، حتى ينسلّ كمن أقدم على عمل مشين!
بدد رجل الهاتف الجوال وحدتي، وأصبحت اتصالاته تأتيني كل ليلة؛ فتبعث في حياتي الحبّ والأمل، وأصبحت أنتظرها بفارغ الصبر!
منذ حصولي على الإجازة في علم الاجتماع، لا شيء يؤنس وحدتي سوى مذياع ومسجّل، وبضع كتب أعدت لأمثالي، حصلت عليها بشق النفس، فكررتها وحفظتها عن ظهر قلب! حتى الوظيفة التي نلتها بعناء شديد، وباستثناء من الوزير، كانت زنزانة صغيرة، سجنت فيها مع مقسم يدوي، لا أحد يزورني، ولا أزور أحداً!
كان صوته حنوناً دافئاً، يفوح منه عبق الرجولة، فأدمنت عليه، وحين يتأخر عن موعده، يخفق في صدري نسر جريح، وتستعر نار وأفكار!
فجّر رجل الهاتف الجوال أنوثتي، وسرى صوته في عروقي، فبعث فيها نسغ الحياة!.. يكفيني منه هذا، ولا أريد أكثر من ذلك!
وصلت قبل الموعد، يغرقني الخوف، وينتشلني الحب!... كم حاولت أن أخبره بالحقيقة، ولكنه لم يستمع!... كان يقول: لقد أحببتك وكفى!
أسمع صوت سيارة تقترب... قلبي يخفق... تقف أمامي مباشرة... تنقطع أنفاسي، يخيم صمت القبور... أشعر به يتأملني مشدوهاً!
يدور محرك السيارة، تصرّ وتطلق عجلاتها للريح!... أنادي فلا أسمع سوى صدى صوتي!... أتصل فأسمع صوتاً أنثوياً يقول: إن الرقم المطلوب مغلق، أو خارج نطاق التغطية (حالياً)... ما كان عليها أن تقول: (حالياً)، كان عليها أن تقول: للأبد!
أتسمر في مكاني، مع عصاي التي استرشد بها الطريق... وتحت نظارتي السوداء سيلٌ من الدموع!
(تمت).

إرسال تعليق

 
Top