منذ شهر، أقف في ذات المكان، منتصب القامة، متلفعاً ببهاء طلّتي، محنّطاً بثمن غالٍ، منتظراً عيوناً تسرق نظراتي، أبحث عن جسد يرتديني؛ في المساء أرى عيون الزبائن تلمع، الخطى تنقر سمعي، اتنقّل بين الأيدي، أكابد مرورهم دون اهتمام، أحصي حسراتي، أرمم خيبتي، أعاود ترتيب نفسي، القلق ينتابني، أتساءل، لِمَ يتجاوز هؤلاء أيقونة الدفء؟. الممرّ قبلتي، يمتدّ أمامي، ضحكة في أقصى المكان، تنهش سمعي، وجه مضيء ينبثق من بين الزحام، يبدّد ظلمة انتظاري، امرأة لها نكهة الحلم، يلفّها الغنج، طافحة بالجمال، تتهادى نحوي على إيقاع لهفتي، تتأبط ذراع رجل ذي سحنة مهيبة، متّشح بالكبرياء، أقف مذهولاً، أحاول أن ألفت انتباهها، أرمي سهامي، تبتلع جنون لهفتي، تهمس في أذنه، تشير بسبّابتها نحوي، يرتعش فرائي، أعلن حضوري بكلّ ما أوتيت من زهو، يقتربان منّي، أناملها تمتدّ، تلامس أكمامي، تقلبّني بين يديها الرقيقتين، تتحسّس بطانتي، أحسّ بدفء أنوثتها، فيما كان الرجل يحاصرني بعيني ذئب، يتفحّص ثمني الباهظ، يستجيب لرغبتها،
- نعم، إنّه مناسب لي.
أشهق فرحاً بعد انتظار طويل فوق أرصفة الصبر، أدخل منزلاً مترعاً بالدفء والجمال والثراء، أشرب نخب عالم جديد يتلو الوجود غناه. أحتلّ مكاني في خزانة ملابس مزدحمة ببدلات وقمصان فاخرة، وأربطة عنق زاهية الألوان. هاأنذا أتهيّأ لمحطتي الأولى، رجلٌ استيقظ تواً من مفاتن زوجة جميلة، هائمة به، يرتديني كبقية من رغبته، يخرج محتمياً بابتسامتها، أقتفي خطواته، يسعى في طرقات تثير الخيال، بيد أنّي أقع في دائرة الاستغراب، لمّا بدا لي صاحبي كصرصار، يمدّ قرون استشعار، باحثاً عن لذّة حقيرة، يطفئ ابتسامة زوجته؛ ليدخن ابتسامة امرأة أخرى؛ ياقتي المرصّعة بالدهشة تشهد كلّ يوم خيانته على ما تيسر من متعة.
ذات ليل أسمع صوت أقدام تقترب منّي، كان الزوج غائباً، أراها تتجه ناحيتي، تقف قبالتي، تطلق آهة خافتة، تفتح ذراعيها، تضمني، تشمّ أنفاسه المندّسة بين مساماتي، ترتديني، يلسعني دفء جسدها البض، أزرّ نصفيّ وجودي لأحتويها؛ فتغفو على لهفة تصرخ باللقاء؛ لكنّي أعلم أنّها ستصحو يوماً على جرح لن يندمل. غيابه المتكرّر يمنحني الشغف بها، المكان يتواطأ معي، استظلّ بمناطق غامضة بالإثارة حين يهجس الجسد بالعطش. الأيام تمرّ، تغطّ في أحلام عليلة، أستفيق مذعوراً على صدى نداء ينبع من محطة أخرى، أتعثّر بأيدي الخادمة العابثة بوجودي، أراها تحرق طرفي بالمكواة، تشوه جمالي، أُرمَى بيد أول سائل يطرق باب الدار، أبات ليلتي الأولى مركوناً في زاوية مهملة في كوخ يرتجف من شدّة البرد، يلفّه الصمت والحزن؛ ليالٍ تمضي، مكتومة بأوجاع لا تحتمل؛ النهار يشكّلني فراشاً، والليل يتّخذني غطاء لصبية جياع، مثلي صاحب الكوخ، رجل محاط بالوجع وضجيج العزلة. ذات قدر تراني أُعرض في سوق ( اللنكَات )*، فلا يروق لأحد منظري، يبتاعني رجل سكّير بسعر بخس، يرتديني وأنا لست على مقاسه، أذيالي تخطّ الأرض، تكنس الطرقات خلفه، الوحل يشكلّني لوحة بائسة من قيء وقرف؛ كظّله ملازمٌ له، أتنقّل من حانة منسية إلى رصيف زلق، أحلم بانقضاء فصل الشتاء؛ لعلّي أحظى بقسط من الراحة؛ فجأة يتوقف الحلم على صوت انفجار، أجفل مرعوباً، أحلق في الفراغ، تعتريني رغبة بالبكاء، أرتطم بالأرض، أتبعثر، أشلاء الرجل السكّير تخلعني، ترتدي حلّة النسيان فوق الرصيف الزلق كأصدافٍ على شواطئ العدم؛ ما تبقّى منّي يُلقى في مكب النفايات، أشعر أنّي بعيد عن الموت الذي أشتهيه، غارق في ظلام دامس، وحدي في القمامة أحتسي فنائي، يؤلمني أن أطلق آخر صرخاتي دون جدوى، الصدى يردّد،
" من يجمع أشلائي المبعثرة في مسارب القمامة؟ ".
لا أحد يسمعني، الأماني تلوذ بالفرار. ثمة قوارض تنتظر بقاياي.
إرسال تعليق