GuidePedia

0
تعوُّدٌ (قصةٌ قصيرةٌ)
تتقطعُ أنفاسُهُ جريًا في باحةِ المحطةِ، القطاراتُ رابضةٌ على القضبانِ؛ والناسُ دائبةٌ تروحُ وتجيءُ بلا هوادةٍ، يسألُ أحدَهم؛ فيشيرُ في صمتٍ إلى الرصيفِ المقابلِ، بِالكادِ يتعلقُ بِالقطارِالمتأهبِ لِلانطلاقِ، يتركُ نفسَهُ لِلتيارِ؛ لِيتحركَ لِلداخلِ بِبطءٍ، يلصقُ ظهرَهُ بِزاويةِ أحدِ المقاعدِ، الوقتُ يمرُّ كسُلحفاةٍ، تتخشبُ قدمَاهُ من طولِ الوقوفِ، الهواءُ الساخنُ المندفعُ من الشبابيكِ المكسورةِ يلفحُ وجهَهُ، يودُّ لو يخلعُ ملابسَهُ؛ كهذا البائعِ الذي يتنقلُ بين العرباتِ عاريَ الصدرِ بِخفةِ القرودِ، يُلقي بضاعتَهُ الخفيفةَ على حجورِ الجالسين مُعرِضًا عن الواقفِينَ؛ ثم يعودُ لِيجمعَها؛ أو يجمعَ أثمانَها، مرددًا عباراتٍ مسجوعةٍ تعجبُ الناسَ بِصوتٍ عذبٍ ممطوطٍ، لم يسبِقْ لهُ السفرُ بِالقطارِ، بل هذه تجربتُهُ الأولَى لِلخروجِ من بلدتِهِ، اليومَ آخرُ موعدٍ لِلتقدمِ لِمكتبِ التنسيقِ بِالعاصمةِ. ولَّتْ أيامُ الثانويةِ التي أقضَّتْ مضجعَهُ؛ لِيفوزَ بِمجموعٍ كبيرٍ، ابتسمَ وهو يتذكرُ طابورَ الصباحِ الذي لم يحضُرْهُ إلا لمامًا، لِيقفَ كلَّ مرةٍ مع المعاقَبين؛ حتى يُسمَحَ لهم بِالصعودِ إلى الفصولِ. القطارُ ينهبُ الأرضَ نهبًا، صريرُ العجلاتِ الحديديةِ يصمُّ أذنيْهِ، الكراسيُّ كلُّها مشغولةٌ بِالناسِ والأمتعةُ، حتى الأرففُ المخصصةُ للشنطِ والمتعلقاتِ احتلَّها بعضُ الجنودِ؛ وأحذيتُهم المتدليةُ؛ تكادُ تلامِسُ رؤوسَ الواقفِينَ، بعضُ المحظوظِينَ وجدَ متسعًا؛ ففردَ ظهرَهُ على خشبِ الرفِّ؛ وعلا غطيطُهُ، اشتكى حذاءَ الجنديِّ القابعِ فوقَ رأسِهِ؛ والذي أعيَاهُ تفاديهِ مع حركةِ القطارِ المترنحةِ، خلعَ الأخيرُ حذاءَهُ؛ لِتنتشرَ رائحةٌ كرائحةِ الفسيخِ المُعتَّقِ، تقفُ إحدَى القروياتِ؛ لتتفقدَ جرَّةً لها؛ تحوِي جُبنًا قديمًا، فتزدادُ الرائحةُ الكريهةُ مع أنفاسِ التبغِ المنبعثةِ من الأفواهِ والصدورِ، لا أحدَ يتأففُ، فرائحةُ العرقِ المنبعثِ من الأجسادِ المتلاحمةِ تغطِي على كلِّ الروائحِ، عدا تلك التي تهبُّ من حينٍ لأخرَ من دورةِ المياهِ المجاورةِ، تهربُ إوزةٌ وتتسابق الأيدي للإمساكِ بها وإعادتِها لصاحبتِها، تتسمرُ عينَاهُ على القيدِ المعدنِيِّ؛ الذي يربطُ مِعصمَي اثنينِ من الجالسِينَ، ينظرُ إليهِ أحدُهما بِحدةٍ؛ فيحولُّ بصرَهُ بِسرعةٍ، يتوقفُ القطارُ تدريجيًا، تبدأُ موجةٌ جديدةٌ من التدافعِ، يتشبثُ بِحلقةٍ بلاستيكيةٍ مدلاةٍ من عامودٍ معدنِيٍّ ممتدٍ بِطولِ العربةِ ومثبتٍ بِسقفِها بِمساميرَ قويةٍ، البعضُ يقفزُ من فتحاتِ النوافذِ؛ والآخرُونَ ينزلُونَ عبرَ طابورٍ؛ يمتدُّ حتى البابِ. تتدافعُ أمواجُ الصاعدِينَ والنازلِينَ. صوتٌ يولولُ على حافظتِهِ المفقودةِ، عجوزٌ تصيحُ على الرصيفِ؛ وقد سبقَها ولدُها؛ تخشَى أن يتحركَ القطارُ من دونِها، مفتشُ التذاكرِ يقتربُ. يتحسسُ تذكرتَهُ وحافظةَ نقودِهِ، يقبضُ بِقوةٍ على ملفٍ بِهِ أوراقُ مستقبلِهِ المختومةٌ. تخلُو أماكنُ بِالرفِّ؛ فيثبُ مع الواثبِينَ، يظفرُ بِأحدِها؛ ويُدلِي قدميْهِ فوقَ الرؤوسِ. يقدِّمُ التذكرةَ لِلمفتشِ في ثقةٍ، لِيتأملَها الأخيرُ في دهشةٍ ثم يردَّها إليْهِ:
_هذه تذكرةُ درجةٍ ثانيةٍ، لِلقطارِ الذي انطلقَ من نصفِ ساعةٍ في الاتجاهِ المضادِّ.
أحمد عبد السلام_مصر


إرسال تعليق

 
Top