ق قصيره " مواجهة "
كلما رآه... , يتفنن المعلم سعد فى استحضار تكشيرة مظلمة , فهو الساكن الوحيد عنده .. هو الباقي .. يعود مع انسدال المساء ويراه – ميت فل واربع تاشر - ما إن يرى المعلم سحنته ؛ يسارع بارتداء الوجه العكر .. لا يذكر أبدا انه أساء إليه ولو عن غير قصد منه . . منذ اول يوم هل على الحارة , واشترى البيت وفتح محل الجزارة بالدور الارضى .. لا يذكر . كثيرا ما حاول اصطياد لفظ أحمق تكون وليفته قد وجهته للمعلم سعد .. لا يجد .. يراجع حساباته , إيجار الشهر .. المياه .. الكهرباء .. الصيانة التي ابتدعها المعلم .. ؟! كله تمام .. هل هو طبع المعلم ؟ لا يظن .. فهو لا يفعل ذلك مع غيره .. هو ساكنه الوحيد و منتظم كما الساعة فى التزاماته ..
تعود تلاوة الآية : "خذ العفو وامر بالعرف واعرض عن الجاهلين" رغم ان المعلم ليس بجاهل , فهو يقرأ الجرائد يوميا ويتكلم فى السياسة بنفس مهارته فى جواهر اللحوم والكارع والمواسير ومذاق شوربتها ..
وتعود إلقاء التحية كلما مر عليه من قريب أو من بعيد ,
ومعها اوسع ابتسامه ممكنة فلا يجد سوى تعليقات ساخرة و هزار سمج يضطر لمضغه مدعيا الاعراض والحلم , ذلك انه لا وجه للمقارنة ؛ فالمعلم لديه الساطور والسكاكين وعدد من الخطاطيف المعلقة و ثلاثة من صبيانه لايعصون له امرا ولا رغبة .. ولديه جريدته اليومية ونظارته السميكة و عدد من القصص والإشعار والدراسات يحلم بان ترى النور
ولو قبل القيامة بساعة .
هذا الصباح رسم ابتسامه واسعه وألقى التحية ككل صباح , ولم يردها المعلم .. ككل صباح سوى بهزة من رأسه للخلف .. ولم يهتم ككل صباح . .
لكنه فوجئ بشيء مهول متهلهل ؛ الشيشة تلقى في عقبه ويصل ماؤها المدخن العكر والوسخ الى ملابسه , وتتفرق جمراتها على ارض الشارع . . القي نظرة سريعة وهو يشد الخطى متأففا . . قليلا , نافضا بظهر يده عن بنطلونه بعض ما وصل إليه من تحية المعلم , بينما صوت المعلم يطارده : " انت يا افندى يا زفت . . انت "
لم يشك لحظة في انه المقصود دون أهل الشارع .. وواصل السير متغافلا .. ليكتشف أن لأرضية الشارع حفر ومطبات أكثر بكثير مما كان يظن .. يتوقع أن تهبط يد المعلم
على كتفه .. وربما على قفاه بمناسبة اعجاب المعلم بنحافة قفاه .. و يقترب الصوت اكثر "تعال يا افندى انت .. مش سمعتنى أناديك ؟"
تنادينى انا يا معلم ؟ أنا .. الزفت اياه ؟!
كان يحاول جاهدا جعل النبرة نبرة عتاب لا حساب , بينما كان حريصا أكثر على وجود مسافة امنة بينه وبين المعلم .
والظاهر أن صبر الرجل .. خلص وانتهى وتحولت سحنته الى قطعه من لهب سوداء او حمراء او .. لم اعد اذكر غير الزبد الذى كان يخرج من فمه وهو يزأر بصوته المشروخ هذه المرة :" نعم انت .. زفت .. وستين زفت "
يتوقف لحظة ليبتلع ريقه ثم يكمل :"مش كفاية .. قايم نايم فوق راسي وصرفك الصحى .. زى ما بيقولوا الأفندية بيمر من تحت مناخيرى ..؟" ثم لم ينس ان يحك أسفل انفه الضخم .. يقاطعه بدهشة مصطنعه :" هى المواسير انكسرت من عندك يامعلم ؟"
. . . ويقبض المعلم على جانبى رأسه ويشد فى شعره بينما الكلمات تخرج من فمه الضخم غرقى برذاذ ابيض : " انت كمان عاوز المواسير تنكسر وتنزل صرفك فى حجرى ؟ ! " يرد الافندى مسرعا :"لا , لا يامعلم انا ما اقصدش , أنت اللى بتقول .." ويتدخل احد الصبيان مقاطعا :" لا تقول ولا تعيد يا أستاذ .. ازاى تفوت على المعلم من غير سلام ولا كلام .. دا أنت الساكن الوحيد عنده يا راجل .. أنت اللي فاضل .."
انتابته دهشة بالغة .. ونحن معه .. لمن كانت التحية والابتسامة الواسعة , وهل من المعقول أن ينسى الأستاذ طقوس الصباح التي فرضها على نفسه ليتقي شر المعلم وصبيانه .. هل نسى فعلا ؟
لم نكن نشك بذلك , نتابعه يوميا , وأحدهم قال بالأمس أن الأستاذ على وشك أن يعجن عجين الفلاحة , ثم .. لا مفر سيطرده المعلم كغيره , بل أضاف مرتديا ثوب الحكمة : "احرصوا ألا يشترى المعلم بيتا آخر .."
ولكن بدا إن الأستاذ بدأ يداخله الشك فى إلقائه التحية على المعلم , فراح يعتذر :" ما تاخذنيش يا معلم .. الظاهر انى فعلا نسيت .. الظاهر أنى مشغول أكثر من اللازم , عشان كده ما كنتش واخد بالى .." ليعود المعلم إلى سحنته النارية :" وهو المعلم سعد شيء هزيل لا مؤاخذة , أو شخص اى كلام عشان ما تخدش بالك منه يا افندى ؟ ومشغول بايه حضرتك لامؤاخذة ؟ " يواصل :" شفت ليك سكن تانى عشان تنزل من فوق راسي ؟"
:" المعلم صبر عليك كثير يا أستاذ .. أحسن ليك تخلع النهار ده قبل بكره .." لم يلتفت إلى احد صبيان المعلم وهو يحاول إن يكون واسطة خير , غير انه انتبه أخيرا كما يبدو الى أمر كان غائبا عنه , وراح يفتعل ابتسامه و يحاول تهدئة الثورة الناشبة في صدر المعلم :" يا معلم سعد .. صلى على النبي .. أنا في البيت قبل ما يصبح ملكك , والإيجار والميه والنور والصيانة بانتظام بتوصلك .. إيه اللي يرضيك اعمله يا معلم ؟" لكن السحنة النارية تعود مجددا :" بلا كلام ناعم بطلت اسمعه , شبعت منه , مش هيرضينى غير خروجك من بيتي , مش عايز سكان , بيتي يا عالم وأنا حر فيه يا خلق .. شكلك مش عاحبنى .."
تنبه الأستاذ إلى تآكل المسافة الآمنة بينه وبين المعلم فتراجع قليلا للوراء وقد شعر بخطورة حقيقية بينما أهل الحارة تكتمل حلقاتهم متفرجين .. فلا كلمة حق لوجه الله ,ولا صلى على النبي يا معلم ولم صبيانك ولا .. فقط تحلقوا للفرجة .. كثر الله ضنكهم . . علهم . .
من يصدق إن معظم هؤلاء مدين له بخدمه أو أكثر لدى معارفه هنا أو هناك , من يصدق انه قضى وسط هؤلاء عمره كله يجامل هذا ويخدم ذاك أو يقرضه فى محنة بمنحة لا ترد باعتبار تكرار الجدولة رغم تواضع حاله .. الآن لا يجد حين يتصفح الوجوه سوى ذهول او تعاطف يجاهد صاحبه فى ستره أمام سطوة المعلم وصبيانه .. ويبدو انه فكر في إن خناقة مع المعلم سعد سوف تكون أهون وأوجه وأكثر لياقة من علقة الصبيان تتبعثر فيها كرامته فلا تجد من يجمع أشلاءها , فحين أوشك المعلم إن يقبض على مجمع ثيابه , أشار عليه بالتوقف وهو يتراجع قليلا ويفتعل ابتسامه ساخرة لم يتوقعها المعلم .. فرد طوله واضطجع للوراء وقال مستهزئا :" انت فطرت ايه يا معلم النهاردة .. كرشة نية ؟"
:" مالك انت وافطارى ؟.. مالك عملت زى عود القصب ؟"
:"عشان يا معلم لازم يكون فيه سبب كبير .." وخلع نظارته ووضعها في جيبه ثم أكمل :"عشان تتهور وتتغاشم ..وتتهجم على واحد مسالم زى جنابى "
ثم اقسم أنى رأيت ذلك .. ذراع يرتفع في السماء .. وكف تشق الهواء , لتسقط على وجه المعلم سعد وتحدث صوتا جميلا عذبا رأيت أثره في فرح العيون وانعقاد الالسنة , وفى ذهول يتراجع المعلم خطوة يتقدمها هو , عيناه فى عينيه , رابط الجأش كقائد ميداني , ثم .. أعود فاقسم على رؤيتى ذلك .. يفاجئه بصفعة أخرى اقوي من السابقة دون إن يرفع عينه عن عينيه الذاهلتين , فيتأخر خطوة أخرى ممسكا بكلتا يديه وجهه غير مصدق لما يحدث , وحين يتقدم هو ليحافط على مسافة اللطمة الثالثة يحدث ما يذهل له الجميع .. يتراجع المعلم عدة خطوات .. ينحني على ارض الشارع , يبحث عن شىء ما وهو يزأر بصوته المشروخ كلاما غير مفهوم ....
و.. تحاجز المساكين .. الملاعين أهل الحي بينهما .. الآن فقط يتحاجزون وهم يشيعونه بضحكات التشفي ويضربون كفا بكف , أما هو فيرفع نظارته عن عينيه ويجمع أوراقه من أيدى المتبرعين ,
ويملأ صدره بهواء جديد , ويواصل طريقه الى عمله.. عزيز المصرى
ويملأ صدره بهواء جديد , ويواصل طريقه الى عمله.. عزيز المصرى
إرسال تعليق